الحديث عن العلامة ابن خلدون يقودني إلى الحديث عن مدينة تونس العاصمة. هذه المدينة الجميلة هي أبرز مدن تونس من الناحية السياحية إنها وريثة قرطاج، وتقع على مفترق الطرق البحرية والبرية عبر تاريخ البحر المتوسط. وتونس القديمة أو العتيقة كما يطلق عليها أهلها يعود تاريخها إلى أكثر من خمسمئة عام، وهي تذكرني بمصر القديمة أو العتيقة، إنه المصطلح الأكثر انتشاراً في مصر كما هو الحال في تونس العتيقة. وقد تجولت مرات عدة في أزقتها ودروبها ومساجدها بعماراتها ومآذنها المربعة ومنازلها البيضاء ذات الشبابيك والأبواب الزرقاء.
هذان اللونان هما السمة الواضحة في هذه البيوت المزدانة في أحيان كثيرة بلوحات الفسيفساء ذات الألوان الزاهية، إلا أن شبابيك وأبواب الألمنيوم غزت تونس أخيراً، كما أن البحرين تصدّر كمية كبيرة من الألمنيوم إلى تونس.
في هذه المدينة التي تعبق برائحة التاريخ وعبر أزقتها الضيقة قادتني قدماي بعد وصولي إلى تونس مباشرة في سبتمبر/ أيلول لممارسة عملي الدبلوماسي إلى جامع الزيتون ذي العمارة الشامخة. ويعود تاريخ تأسيسه إلى القرن التاسع الميلادي، وقد أنشأ حسان ابن النعمان مدينة تونس على أنقاض مدينة بونيقية الفينيقية، وهذا المسجد يمتاز بمئذنته الشامخة، وأروقته الواسعة، وهو جامعة عظيمة يؤمها الطلبة من تونس وخارجها، وتخرج منها الكثير من طلبة البحرين، من بينهم الشيخ عبداللطيف المحمود وعلوي الهاشمي وخالد السعد المدرسين في جامعة البحرين. وبه أروقة واسعة وباحته الخارجية ذات مساحة كبيرة. وفي هذه البقعة تبدو المنازل ذات نقوش جميلة، أبدعتها أيادي صناع مهرة. وقد زرت الأسواق المحيطة بهذا الجامع وهي مسقوفة وضيقة وتعمر متاجرها بالأزياء التونسية الشعبية والتحف والصناعات التقليدية من فضة ونحاس وخزف وزرابي وسجاد.
وهناك محلات العطارة وملابس الحرير المزركشة الغالية الثمن، وصناعة النعال الجلدية التي يطلق عليها أهل تونس «الشلاكة». وقد انتهزت زيارة الصديق منصور سرحان إلى تونس فقمت بجولة معه في مناطق الأسواق الشعبية القريبة من باب البحر، حيث تقع في مدخله السفارة البريطانية.
كما يؤم هذا السوق كثير من العائلات التونسية، ولاسيما في فصل الصيف، وهو موسم الأفراح والليالي الملاح وختان الأطفال، فيشترون مستلزمات هذه المناسبات من حناء وحلويات وملابس وأنواع البخور المختلفة وكل حاجات الفرح.
ولابد في هذا المقام من التعريج على زيارة مقام أحد أولياء الله الصالحين (سيدي محرز)، في وسط هذه السوق لشرب قليل من ماء البئر التابع لهذا المقام تبركاً واحتساباً. وفي هذه المنطقة مقابر قديمة تضم مقابر الأسر المالكة من البايات، وفي هذه المقابر جداريات ذوات زخرفة ونقوش. كما تقع هنا منطقة القصبة الشعبية التي بها وزارة الخارجية القديمة، وكذلك الوزارة الأولى، أي مجلس الوزراء. وخلال ترددي إلى هذه الوزارات شدتني الجداريات المزدانة بالفسيفساء، وكذلك بلدية القصبة إذ توجد سوق للذهب يطلق عليها سوق «البركة». وفي جامع الزيتونة حضرت مرات عدة مناسبة الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف في ربيع الأول، وجرت العادة الاحتفال به في كل سنة إذ يؤمه الرئيس زين العابدين بن علي وهو يرتدي الزي التقليدي التونسي الجميل، وكذلك بقية الوزراء، ويحضره سفراء الدول العربية والإسلامية. وتبدأ تلاوة التراتيل والأناشيد الدينية والأهازيج والأذكار. إنها مناسبة دينية يهتم بها أصحاب الطرق الصوفية وترتفع أصوات الخطباء والمادحين عبر مكبرات الصوت، ويتبارى الشعراء أيضاً في الإشادة بهذه المناسبة الكريمة وتباع الحلوى المعدة خصيصاً لهذه المناسبة وتختلط أصوات الطبول والدفوف مع روائع المديح من الأشعار الجميلة. إنه احتفال مهيب بمولد رسول البشرية النبي محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم.
كما لاحظت في هذه المناسبة وجود كتب كثيرة عن السيرة النبوية. وتعد عصيدة «الزقوقو» اللذيذة المذاق احتفاء بهذه المناسبة الكريمة، وهي عبارة عن حبات صغيرة سوداء مثل السمسم ويطلق عليها اسم الصنوبر الحلبي، وتطحن هذه النبتة ويضاف إليها الكريمة وتقدم في كؤوس جميلة من البلور بعد أن تزين بجميع أنواع المكسرات. وهي في رأيي تفوق حلاوة «أم علي» المصرية في مذاقها ولذتها، ومن يتناولها محظوظ... فهنيئاً مريئاً له
إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"العدد 1364 - الأربعاء 31 مايو 2006م الموافق 03 جمادى الأولى 1427هـ