لست أعرف كيف لا يرتبك رجل/ امرأة حين يفاجأ بأن المرآة ليست في مكانها الذي اعتاده! عدم الارتباك يكشف عن بلادة حد المرض، وفي درجاته الحرجة. اختفاء المرآة من مكانها الذي اعتاده أي واحد منا بمثابة اختفاء ملامحه ذات وقت! أن لا تتأكد من ملامحك كل صباح، على رغم يقينك أن شيئا من تلك الملامح لم يمسسه أي تغيير، يكشف عن سهو فادح، لن تلحظه، ولكن الآخرين سيتكفلون بذلك التشفي.
كل من يغادر بيته قبل المرور على ذلك الإطار، لا شك يعاني من خلل ما!
****
لم تكن علاقة الانسان الأول بالمرآة الأولى على وفاق واطمئنان. ظلت الصورة الأخرى على صفحة المياه - باعتبارها مرآة أولى - مخلوقا غريبا وضربا من السحر، على رغم تطابق الملامح. كان الإنسان الأول يرى في صورته شيطانا ورمزا للسحر. لكأن بداية العلاقة مع انعكاس الصورة الأول تشي بسحر ما. قبلها كان الظل جزءا من مرآة مع فارق لا ينسى، ذلك التطاول والامتداد، حتى لذوي القامات القصيرة.
بين الظل والمرآة علاقة تطور واكتشاف، ففيما الظل يأخذ دور التهويل في صفة القامة والحجم، تأخذ المرآة جانبا من الواقعية والتفصيل لا خيانة أو تهويل فيه.
****
وفيما الظل في اكتشاف وملاحظة أولى يمثل تابعا غير مرغوب فيه، بل ومخلوقا يسعى للنيل من صاحبه، ظلت المرآة بدءا بصورتها الأولى في الماء أكثر قبولا وألفة، لم تثر صورة الرجل الأول في الماء خوفا حد تجنب تكرار المحاولة، والوقوف على الاكتشاف، فيما الظل استمر بسمعته السيئة ردحا من الزمن.
حتى اليوم، يظل الطفل متوجسا من ملاحقة ظله له، ولكنه أمام المرآة يكتشف حضوره، يحاول الامساك بصورة الانعكاس الرابضة في الإطار. يطلق قهقهات لا حد لها، لكنه مع الظل يستمر في حال من الدوران الذي لا ينتهي إلا بتداعيها في محاولة للإمساك بشبح لن يطاله.
****
واحدة من الحروب الكبيرة بالنسبة الى عدد كبير من النساء، تكمن في مصادرة المرايا من أمكنة تكتظ بهن. راقب الطريقة التي تتعامل بها الواحدة منهن إزاء ورطة كتلك. نساء كثيرات، وندرة في المرايا، تعني اللجوء الى العتمة في محاولة لاستخلاص انعكاس منها، فقط لتفقّد الملامح ولا شيء آخر. والزمن بالنسبة إلى المرأة أكثر حضورا وحساسية فيما يتعلق بسنّها وما يرتبط بتلك السن من تفاصيل.
أمكنة من دون مرايا بالنسبة إلى المرأة - أية امرأة - هي بمثابة جحيم من نوع آخر، أو محاولة أخرى لإرسالها الى حتف لم يحن بعد.
****
اختفت المرآة فجأة، لأكتشف انها تهشمت لأسباب تتعلق بالفيزياء. ولأنني لم أحب الفيزياء منذ علاقتي الأولى بها، تأكد لديَّ انها عدوانية أكثر مما تعلمناه من دقتها وثباتها. اكتشفت أنْ لا دقة ولا ثبات للفيزياء، بدليل أن المرآة اختفت من دون أن أكون مجبرا على الاقتناع بذلك التبرير الذي يتلخص في: انفجار انبوبتي غاز قبل اسبوعين بعد صلاة الفجر مباشرة. ولهول انفجارهما كاد السقف أن يطبق على الأرض، ولم تجد الفيزياء غير المرآة كي تتركها «صرحا من خيال فهوى».
بعد الظهر، تولي وجهك شطر الجهة التي تظل متيقنا من انها هناك في مكانها، لتفقّد ملامحك قبل أن تغادر لمزاولة شقاء يومي. المرآة ليست في مكانها. ذلك يعني انك لست موجودا. لا شيء يدل على امكان تقبُّل الآخرين في الشارع لملامحك التي لم تعرف عنها شيئا بعد دوي الفجر
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 1364 - الأربعاء 31 مايو 2006م الموافق 03 جمادى الأولى 1427هـ