في سياق الصورة الكبيرة للتاريخ العربي الذي صنعه أجدادنا على مر التاريخ، وسياق المستقبل العربي القادم كما تبشر به الثورات الشعبية المجيدة، لن يكون الكيان الصهيوني أكثر من مجرد حاشية في كتاب تاريخ الشعوب العربية الذي تصنعه ثوراتهم الشعبية.
ليس فقط لأن شبح فلسطين يسكن كل الثورات العربية، بل أيضا لأن معركة العرب الفاصلة والنهائية في سبيل حريتهم هذه المرة، مثل كل المعارك الفاصلة في تاريخهم وتاريخ المنطقة الطويل، ستكون حتماً في فلسطين، تماماً مثلما كانت معركة حطين التي أسست لنهاية الغزو الأوروبي الصليبي، وعين جالوت التي قضت نهائيا على الزحف المغولي.
ومَن يعرف قليلا من تاريخ المنطقة العربية الطويل الذي يعيد الفلكلور الفلسطيني إنتاجه وتشكيله بشكل عبقري ليشكل رافدا لا ينقطع لإذكاء شعلة المقاومة، سيدرك أنه في سياق التحديات الهائلة التي واجهها العرب في تاريخهم الطويل وانتصروا عليها ستبدو «إسرائيل» والانتصار عليها مجرد حدث عارض في سلسلة من المخاطر الكبرى التي تغلبت عليها الأُمة.
ومَن يعرف شيئا عن ثقافة الفلسطينيين وفلكلورهم الذي طبعته التحديات الكبرى في تاريخهم سيدرك أن عُمْر مقاومة الفلسطينيين والعرب سيكون حتما أطول من عُمْر الكيان الصهيوني.
- من التاريخ
لم يكتب لعز الدين ابن الأثير الجزري (550-630 هجري/ 1160- 1233 ميلادي) الذي أرَّخ لأَهم التحديات التي واجهت العرب والمسلمين في تاريخهم الطويل (الغزو الصليبي والزحف المغولي) وشهد تحرير القدس (الذي «فتحت له أبواب السماء، وتبلجت بأنواره وجوه الظلماء، وابتهج به الملائكة المقربون، وقرت به عين الأنبياء والمرسلين»، كما جاء في خطبة الجمعة الثانية بعد التحرير) والأقصى على يد الناصر صلاح الدين، أن يشهد موقعة عين جالوت ويرى نهاية الحملة المغولية التي قضت على مركز الخلافة العباسية في بغداد تتحطم في فلسطين.
لكن مؤلفه المرجعي «الكامل في التاريخ» مليء بالإضاءات حول خطورة وهمجية وعنف هذا الغزو الذي وصفه «بالحادثة العظمى والمصيبة الكبرى» وأَعرَض عن التأريخ لها لسنين كما يقول «استعظاماً لها، كارهاً لذكرها».
ووصفها بـ «الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمَّت الخلائق وخصَّت المسلمين، فلو قال قائل إن العالم منذ خَلق الله تعالى آدم وإلى الآن، لم يبتلوا بمثلها. لكان صادقا». (الكامل في التاريخ، المجلد العاشر، ص: 399).
فحين خرجت قوات جنكيز خان من مدينة هراة، نجا من الموت فقط أقل من أربعين شخصا تمكنوا من الاختباء. هذا كل ما تبقى من أكثر من مئة ألف من سكان المدينة الجميلة التي تحولت لخراب كما وصفها توماس آرنولد (توماس آرنولد: الدعوة الإسلامية).
وفي بخارى، حوّل المغول الأماكن المقدسة فيها إلى إسطبلات لخيولهم، مزقوا القرآن الكريم، وأسروا القليل ممن لم يقتل من أهل المدينة التي حولوها إلى رماد.
ولم يختلف مصير سمرقند، وبلخ، وأطرار، وجند، والطالقان، وغزنة وغيرها من مدن آسيا الوسطى التي كانت منارات للعلوم ومراكز للحضارة العربية الإسلامية. هذه فقط كانت بداية الحملة المغولية التي أرَّخ لها المؤرخ النبيل وأصابته بالصدمة الهائلة. فـ «التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها».
كل هذا ولم يشهد ابن الأثير القسم الأعظم من الدمار الذي حملته الغزوة المغولية التي «سارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح». فرغم قوله «ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم»، توفي ابن الأثير الذي أرَّخ لقيادة جنكيز خان قبل عهد المنطقة بحفيده هولاكو وقبل سقوط ودمار بغداد وحلب ودمشق والتجهيز لغزو مصر بنحو ثمانية وعشرين عاما.
ولو قرأ ابن الأثير ما كتب ابن كثير من بعده في «البداية والنهاية» في وصف الهمجية المغولية لتأكد من دقة وصفه وحسن قراءته للهجوم الهمجي في حينه والذي دفعه لوصف تأريخه الحولي لما بعد سنة 517 هجرية بـ «نعي للإسلام والمسلمين».
ففي بغداد التي أحالها المغول لخراب، اختلف الناس في عدد من قتل، كما روى ابن كثير. «فقيل: ثمانمئة ألف. وقيل ألف ألف وثمانمئة ألف. وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف نفس» (البداية والنهاية، الجزء السابع عشر، ص: 361).
أربعون يوما من القتل الهمجي حلت ببغداد ولما «نودي ببغداد بالأمان، خرج من كان تحت الأرض بالمطامير والقنى والمغاير كأنهم الموتى إذا نبشوا من القبور، وقد أنكر بعضهم بعضا، فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد، فتفانوا ولحقوا بمن سلف من القتلى، واجتمعوا في البلى تحت الثرى» (المصدر السابق، ص: 362- 363).
ماذا كان سيكتب ابن الأثير لو قرأ ما أرَّخ ابن كثير للدمار الذي حل بالعراق والشام. فلما «انقضى أمد الأمر المقدور، وانقضت الأربعون يوما بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر، فتغيرت صورهم، وأنتنت البلد من جيفهم، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء، حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون». (المصدر السابق، ص: 362).
- من الفولكلور
هكذا فقط يمكن فهم الأهمية التاريخية العظيمة لمعركة عين جالوت التي لم تنقذ العرب والمسلمين فقط، بل أنقذت الحضارة الإنسانية كلها. وهو أيضا ما يوجب استصغار قدر «إسرائيل» واستعظام تقريعها. وهكذا فقط يمكن فهم الإجلال الكبير والتقدير العظيم الذي يوليه مؤرخو هذه المرحلة وما بعدها لقائد المعركة الملك المظفر سيف الدين قطز (الذي خَصَّهُ تعالى برؤية الرسول الكريم في الحلم مبشرا إياه بملك مصر والنصر على التتار، كما روى ابن كثير في المصدر السابق، ص: 413).
ليس بعيدا من موقعي معركتي حطين واليرموك اللتين لهما أهمية كبرى في تاريخ العرب والمسلمين، وقريبا من بيسان وقعت معركة عين جالوت العظيمة في العشر الأخيرة من شهر رمضان العام 658 هجري.
هناك، حيث سقط سيف الدين قطز عن فرسه القتيلة وظل يقاتل ثابتا على قدميه، يمكن لمن يغمض عينيه وينصت جيدا، كما يقول الفولكلور الفلسطيني، أن يسمع صدى صرخة الملك المظفر «اللهم انصر عبدك قطز» لايزال يتردد بين الجبال المحيطة بالسهل. وعلى بعد كيلومترات قليلة شمالا، حيث وقعت معركة حطين الفاصلة، يمكن أيضا لمن يغمض عينيه وينصت جيدا أن يسمع ما كان يجول في ذهن صلاح الدين في أوج معركة حطين: «بيت المقدس أولاً وأخيراً».
وقليلا إلى الجنوب من مكان الموقعتين العظيمتين حيث مدينة القدس يمكن لم يفلت العنان لحواسه أن يشتم عبق «ماء الورد الفاخر» الذي غسلت به الصخرة الشريفة لتطهيرها بعد تحريرها في السابع والعشرين من رجب سنة 583 هجرية.
ليس بيت المقدس وأكنافه كأي مكان آخر على وجه الأرض. فليس للتاريخ هناك معنى فقط. هناك يحدث التاريخ ويبقى حاضرا طالما كان الصراع مع الصهيونية حاضرا، ويمكن لمن يزور القدس أن يراه ويعيشه مهما كان هذا التاريخ بعيدا.
ربما يكون هذا أحد أسرار الصمود الفلسطيني الذي لم يقهر رغم كل الدمار والتشريد الذي حل بهم على أيدي العصابات الصهيونية. فإلى الجنوب من مكان موقعتي عين جالوت العظيمة وحطين حيث لايزال صدى صوتي الملك المظفر والملك الناصر يترددان بين الجبال حدثت أيضا الجلجلة الأولى في التاريخ.
فالفولكلور الشعبي الفلسطيني يذكر أن امتحان النبي أيوب، رمز الصبر الهائل ودلالة المعاناة الطويلة، حدث في قرية الجورة الفلسطينية (نحو عشرين كيلومترا شمال شرق مدينة غزة). دلالات القصة وعلاقتها بتاريخ وواقع الفلسطيني عميقة جدا، وهي التي ألهمت مجموعة محمود درويش الرائعة «حالة حصار» في أوج الحصار الصهيوني أثناء انتفاضة الأقصى (انظر مقدمة ترجمة منير العكش لحالة حصار إلى الإنجليزية). فهنا، يقول درويش: «نفعلُ ما يفعل الصاعدون إلى الله: ننسى الأَلمْ»، وهنا «نفعل ما يفعل السجناء، وما يفعل العاطلون عن العمل: نربي الأمل».
- من الشعر
حين كتب الشهيد غسان كنفاني «الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948- 1967» لم يكن هدفه الأساسي -كما يبدو- دراسة البناء الفني والجمالي للأعمال الأدبية، رغم تعليقه عليه وعلى تطوره اللافت أحيانا، بل كان يركز أكثر على البناء الفكري لهذه الأعمال وبعدها الثقافي ودلالتهما الثورية التي تؤسس لفكرة المقاومة بسبب محورية الثقافة برأيه. فالثقافة «هي الأرض التي تستند عليها البنادق» كما يقول (الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال: ص 9).
ربما لهذا السبب اختار كنفاني التركيز على ردة فعل الشعراء والأدباء الفلسطينيين على الأحداث الكبرى التي هزّت الوعي العربي بشدة كالنكبة والنكسة. ولو قرأنا بعض ما وثق له كنفاني بشكل مختلف قليلا، ومن زاوية الفولكلور الشعبي هذه المرة، سنصل إلى ذات النتيجة.
الفولكلور الشعبي أيضا هو الأرض التي تستند عليها بندقية التحرير وهو مُشكِّل أساسي لإِرادة التحرير. ففي حالة النكسة وهزيمة 1967 التي هزت وعي جيل كامل، مثلا، يبدو الفولكلور الشعبي الأرض الصلبة التي تمنع الانزلاق واستدخال وعي الهزيمة. وهنا يطل علينا نموذج أيوب الصابر الطويل النفس وقرية الجورة التي شرد أهلها ودمر معظمها من جهة والقناعة بحتمية الانتصار من جهة أخرى.
ففي قصيدة «كلمات عن العدوان»، مثلا، يبدو الشاعر توفيق زياد، على عكس المتوقع، شديد التفاؤل وقوي العزيمة:
«كبوة هذي،
وكم يحدث أن يكبو الهمام
إنها للخلف كانت
خطوة
من أجل عشر للأمام».
ومحمود درويش الذي شهدت أعماله قفزة فنية بعد 1967 كما لاحظ كنفاني، لجأ إلى التراث الشعبي ليرفض النكسة وتبعاتها. فبعد الحديث عن خسارة الحلم الجميل، ولا خسارة السبيل، يقول كنفاني، يرتد درويش «إلى كورَس شعبي يشكل خلفية هذا الحزن والتوق، والسد المنيع الذي يتكئ عليه».
«يما مويل الهوى
يما مويليا
ضرب الخناجر ولا
حكم النذل فيا».
وفي طول النفس، تحضر دوما عبارة الراحل جورج حبش التي أضحت حكمة فلسطينية: «إن النضال ضد المشروع الصهيوني قد يستمر مئة عام أخرى، فعلى قصيري النفس أن يتنحوا جانبا». وذات الفكرة وثقها كنفاني في الشعر الفلسطيني، وعند توفيق زياد تحديدا:
«إننا أعمق من بحر وأعلى من مصابيح السماء
إن فينا نفسا
أطول من هذا المدى الممتد
في قلب الفناء».
وليست القناعة بحتمية الانتصار وتحرير القدس مرة أخرى مجرد لازمة شعرية، بل هي جزء أساسي من مكونات التراث والفولكلور الشعبي والثقافة الشعبية التي تُشَكِّل وعي وكيان كل فلسطيني والأرض الصلبة التي تستند عليها المقاومة.
فحين يرى توفيق زياد الكيان الصهيوني في ذات القصيدة «سفينة» من خشب «في محيط من لهب»، فهو يكرر ذات القناعة التي قادت الصراع ضد الأوروبيين الصليبيين.
فبعد تحرير القدس، صلى الناصر صلاح الدين الجمعة الثانية في قبة الصخرة «وأمر أن يعمل له منبر، فقيل له إن نور الدين محموداً كان قد عمل بحلب منبرا أمر الصناع بالمبالغة في تحسينه وإتقانه، وقال هذا قد عملناه لينصب بالبيت المقدس، فعمله النجارون في عدة سنين لم يعمل في الإسلام مثله، فأمر بإحضاره، فحمل من حلب ونصب في القدس، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة» (الكامل في التاريخ، المجلد العاشر، ص: 158).
ربما يكون على العرب البدء بتجهيز المنبر الجديد الذي سينصب في الأقصى بعد التحرير. فالثورات العربية قالت كلمتها: ها قد دار الزمان دورته وبلغ الكتاب أجله
إقرأ أيضا لـ "سيف دعنا"العدد 3254 - الخميس 04 أغسطس 2011م الموافق 04 رمضان 1432هـ
يوم القدس العالمي
يجب إحياء كل صوت ينادي بإرجاع القدس سيما يوم القدس العالمي القادم المقرر إقامته في أخر جمعة من شهر رمضان.
ابوجعفر