أستعيد غصص كثيرين. غصص المتكومين في غرفة واحدة؛ لأن واقع الحال ودناءته حدد لهم زنزانة انفرادية في حيز يملكونه ولا يملكونه. يملكونه على الورق، ولا يملكونه لأنهم محشورون فيه، ويكاد يضيق بأشيائهم.
أستعيد شيوع بطالات طارئة فرضها الظرف والوقت، وزمن لم يكُ قط وردياً. كان رمادياً بامتياز.
أستعيد شيوع منافٍ في الداخل، تطال البيت، ولا تنتهي عند أي طابور في دائرة حكومية؛ أو حتى لحظة هيام على الوجه في الشارع.
أستعيد التناقضات بين من لا يملكون حتى حق أن يحلموا، وبين من لديهم فائض من الأحلام التي تحققت، ويعملون على المؤجّل منها؛ ولو على حساب تراكم مزيد من الغصص والآلام والمصادرات، ولتمضية الوقت لابد أن يتسلوا بعض الشيء بإرسال بعضها إلى من يعرفون ولا يعرفون، في هيئة كوابيس ترفيهاً عن أرواحهم وأجسادهم المترهلة التي تعاني من بطالة لا يمكن بحيز هذه الكتابة أن نقف على وصف ولو سطحي لها.
أستعيد الزمن الأول في علاقة المكونات البشرية؛ إذ لا مشروعات تشطير أو تقسيم أو تجزئة أو شخصنة طاغية؛ فأرى الحال في زمن نحياه ويميتنا كل يوم وقد ارتد بالفطرة الأولى للإنسان إلى حيث ذروة ظلمتها وانحرافها وشهوتها في الإقصاء والنبذ.
أستعيد الإقامة في روع كل منا. إقامة عمادها الحرص على المزاج، وتحرك ذلك المزاج. الحرص على يقينه بضرورة تنوع المكون، وتلك هي الفلسفة والمعنى من وراء وجود هذا الكون ووراء الهدف من عمارة الحياة؛ فيما يراد لتلك الفلسفة والمعنى أن يذويا كما تذوي ريشة في مهب رياح اصطناعية.
أستعيد مشهد عائلة تركت ذم الحال جانباً وراحت تتشارك في كأس شاي لها مذاق الغصّة بضرورة التناوب؛ فيما لصوص وسماسرة ليليون يتناوبون على شفط دم الذين لا سند لهم إلا الله ولا ملجأ إليهم سواه.
لكأنَّ الأوهام تأخذ حظها في هذا الفضاء المتيبس بعيداً عن روحه وأخلاقه.
لكأن الطرق لا تفضي إلا إلى الجدر. لكأنّ الشجر استقال من قامته وصار بالإمكان أن تراه مستسلماً لنسيم رخو يأخذ به إلى حيث انحناءته الأبدية. لكأنّ الظلام في فترته الماسية والنور في منفاه المفتوح على مغاليق المجهول. لكأنّ الحُجُبَ مرايا يستوي عندها الأعمى والبصير.
في العصف لا أحد يختار جهته. أولو القوة ينتهبونها انتهاباً لتفضي بهم إلى قرار عنده يتأملون خساراتهم ولا وقت يدل على أن مكاسب يمكن لها أن تُحصى في محق العصف.
الرومانسية المتهكمة والعذابات بصورها ولغتها الحادة التي تجلاها الراحل محمد الماغوط تكاد تفتح جزءاً من كوة في جدار العصف والخسف الممتد من جغرافية قابلة للتفتت، إلى الرماد الذي يكاد يكون عنواناً ليس فقط لسكّان أرض سماؤهم في الرماد ممعنة؛ بل هيمن على نفوسهم «الزفت» وفحيح كراهيات مصطنعة ويراد لها أن تكون في السياق الطبيعي:
«يا رب...
ساعدني على قول الحق
ومواجهة الواقع
وتحمّل العطش والجوع والحرمان
وألاّ أرد سائلاً
أو أنهر يتيماً
أو استرداد نفقات الأمل على الأقل».
محمد الماغوط
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3253 - الأربعاء 03 أغسطس 2011م الموافق 03 رمضان 1432هـ