العدد 3250 - الأحد 31 يوليو 2011م الموافق 29 شعبان 1432هـ

أن تتجوَّل خارج نفسك

سوسن دهنيم Sawsan.Dahneem [at] alwasatnews.com

يحاول كل منا أن يتخلص من فرديته. فرديته في جانبها المرضي والاستئصالي والاقصائي. انحيازاً إلى الجماعة. الجماعة التي يأوي إليها اتصالاً واتفاقاً مع مرئياته وأهدافه وتطلعاته وأهدافه وأحلامه؛ بل وتشترك معه في اليأس نفسه. لا ضير في ذلك. الضير في أن ينكفئ المرء على فرديته وأن يحصرها في طاقته. طاقة مهما كانت استثنائية وفريدة؛ إلا أنها تظل محدودة ولا يمكن تفعيلها بعيداً عن الحراك العام.مجتمعاتنا لم تصل بعد إلى تلك المرحلة. مرحلة التخلص من الفردية على أكثر من مستوى. أن يرى الفرد نفسه بعيداً عن المكوّن من حوله، من دون أن يصل إلى وهم أنه أساس العالم بعيداً عن المجموع البشري. تلك وجودية في نظريتها لا تتناسب مع واقع البشر والعالم اليوم. لا تتناسب مع أحوال ودقائق وتفاصيل العالم. العالم المشغول ضمن محاولة «خيريته» بتحسين أوضاعه ومتطلباته الأساسية؛ وإن لم ينشغل بتكريس الأخلاق في طريق تحقيق تلك المتطلبات.حين يتحول الفرد إلى جوّال ومتحرك لا يمكن له أن يكون أسير فرديته. ذلك التجوال وذلك التحرك والسفر في دنيا الناس من حوله، وما يتيحه من تأثير وتأثر لا يترك للفردية أن تهيمن وتسيطر على صاحبها بحيث توجهه إلى نوازعه ومتطلبات أنانيته، بعيداً عن الهمِّ والمتطلبات الجمعية وهمومه المتراكمة.

في التجوال، تشعر بألفة الناس والخلق من حولك. تشعر بقيمتهم ووزنهم وقدرتهم على التأثير في حركتك وحركة الوجود عموماً. في فرديتك ترى كل ما حولك ثابتاً... جامداً... مؤجلاً... مرتهناً. ذلك نزف كبير؛ وإن لم تع غزارته وفداحته لحظتها. لكنه يظل نزفاً.الشاعر الفرنسي، جاك لاكاريير في كتابه «الصيف اليوناني» (صدر في العام 1976) كان موضوع الكتاب ومادته، مشياً وتجوالاً في جزر اليونان. التجوال دام لأكثر من 15 عاماً، ولم يكن مشروعه مهموماً بالتدوين والملاحظات واقتناص التفاصيل من ذلك التجوال. كان مهتماً بلقاءات ومصافحة البشر والتأمل في ملامحهم وقراءة أعبائهم وهمومهم. الدخول في تفاصيل المعاش اليومي. تلك هي المسألة: أن تدخل في تفاصيل المعاش اليومي لسواك؛ لتنسى أو على أقل

تقدير تؤجِّل تفاصيل معاشك اليومي، ريثما يلوح لك استقرار في طرف ما. تؤجل تفاصيل معاشك اليومي الذي إن طغى على روحك فلن ترى أحداً سواك. لن ترى مأزقاً... ورطة... نجاحاً... نهاية إلا فيك ومنك ومن خلالك.لاكاريير، لم يسع من وراء تجواله وسعيه طوال عقد ونصف من أجل الخروج بكتاب في أدب الرحلات يثري من خلاله. يلخّص ذلك في لقاء بعنوان «شارب الآفاق» أجراه جهاد كاظم: «للسفر الفعلي ميزة أخرى سوى هذه المتمثلة في تحويلك إلى حاج بالكلمات فهو يجبرك على ملاقاة الآخرين واقتسام حياتهم والتحول إليهم بقدر ما. بتعبير آخر إنه يجبرك على التكاثر وعلى مضاعفة هويتك الأصلية. أنا بحكم الواقع فرنسي. فرنسي قح بمعنى من المعاني وفي الوقت نفسه أنا يخامرني الشعور بأنني مواطن بلدان أخرى».لاكاريير نفسه وضع كتاب «رجال ثمِلون بالله» خصصه للغنوصيين وهو الذي قال عنهم إن «الغنوصيين جاؤوا للتفكير بالإنسان والكون بخميرة تحرر. كانوا شديدي الحساسية بالمعاناة وموت النفوس وجميع العاهات والإكراهات والاستحالات المرتبطة بالشرط الإنساني».هذا النزوع والتوجه إلى التخلص من الفردية في جانبها المرضي حتى في عزلة مسوَّرة ومفروضة وطارئة يكشف عن الطاقة الخلاّقة للإنسان في استجلائه واستدعائه للحراك الجماعي وحتى الكوني الذي يُكسبه طاقة خلاقة. طاقة تجعله قادراً على التجوال والتحرك والسفر حتى في ظل تلك العزلة، تعزيزاً لمكانه وأصالة وأثر الحراك الجمعي، وإدانة للفردية في جانبها الاستحواذي الاستيلائي.لا يمكن لشيوع الحال والنزوع الفردي في مجتمعات اليوم أن يؤسس لتغلب أو تجاوز لمعضلاتها والأزمات، وفوق هذا وذاك، تظل تلك المجتمعات خارج دائرة الحراك الإنساني الفاعل والمؤثر.يحتاج كل منا إلى أن يتجول خارج نفسه. أن يتجول في نفوس وذوات الآخرين.

إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"

العدد 3250 - الأحد 31 يوليو 2011م الموافق 29 شعبان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 7:27 م

      من بحر ال نحن الى نهر ال أنا

      الشعور بالفردية تعني الشعور بالاستقلالية أي النضوج النفسي والعبور الى ضفة الحرية والإرادة والقدرة على الإسهام في حركة المجتمع..ولا يعني على الاطلاق البحث عن خلاص فردي الخلاص الفردي وهم وسراب ونكوص عن القيم التي تربى عليها الفرد وغلبا ً ماتكون عابرة وعرضية وتحت تأثير لحظة ضعف أو موقف سلبي تم فيه تجاهل ما لمكانة الشخص الذي يتخلى عن الجماعة..باختصار لا يستطيع الفرد السوي التخلى عن أهله ومجتمعه ..لكن من ينادي بعودة الفرد الى منطق القطيع فدعوة للبدائية حيث تذوب الانا في النحن

    • زائر 2 | 4:51 ص

      التجوال الفردي له خصوصية

      باعتقادي أن التجوال الفردي يحتاج لخصوصية معينة ، بمعنى أن يكون الفرد ذا شخصية ثابتة ، وراسخة المبادئ والأفكار ، ولكن في نفس الوقت لا مجال لعدم التأثر والتماشي مع الآخرين والخارج ، فهي معادلة صعبة
      مقال جميل استمتعت بالقراءة

    • زائر 1 | 3:39 ص

      واقع البشر والعالم اليوم

      العالم من حولنا يتغير ويتطور بعد الحداثة والتحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ولكن المجتمع العربي لا يزال متخلف وذلك بسبب السيطرة الفردية التي ترفض التغير والتطوير نحو العمل الجماعي المشترك.

اقرأ ايضاً