عنوان هذا المقال مأخوذ من شعار منظمة العمل الدولية للعام 2008 «التعليم: الرد السليم على تشغيل الأطفال»، والمرتكز أساساً على أهداف ثلاثة، هي: تأمين التعليم لجميع الأطفال حتى الحد الأدنى لسن العمل على الأقل، وانتهاج سياسة تعليمية تعمل على تأمين الموارد المناسبة من تعليم ذي نوعية عالية وتدريب على المهارات، والتعليم لزيادة الوعي للتصدي لاستغلال الأطفال في العمل.
وعلى ما يبدو فإن ما ورد في الهدف الثاني (التدريب على المهارات) هو جوهر التعليم الفني والمهني، فلم تعد وزارة التربية والتعليم الجهة المعنية فقط بهذا القطاع التعليمي، فقد أصبح موضع اهتمام المنظمات الدولية، مثل منظمة العمل الدولية، ومنظمة التعاون الدولي؛ ومؤسسات إقليمية مثل المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة، ومنظمة العمل العربية، والاتحاد العربي للتعليم الفني وغيرها.
قد يتساءل البعض: وهل البحرين تعاني أصلاً من انتشار ظاهرة «تشغيل الأطفال» كبعض الدول النامية؟
الجواب: كلا. إذاً، ما علاقة مشروع «التلمذة المهنية» بتشغيل الأطفال؟
لا أريد الاستغراق كثيراً في المبررات التي تسوقها بعض البلدان الفقيرة أو النامية في حديثها عن ظاهرة تشغيل الأطفال، ولكن من المؤكد أن منشأ تشغيل الأطفال هو تسرُّبهم من المدارس، وهو ما يشكل هدراً تربوياً وسلوكاً مرفوضاً في تصوُّر جميع أفراد المجتمع البحريني قبل أن يكون مخالفة تشريعية ودستورية.
يُعرَّف مشروع تطوير التعليم الفني والمهني (التلمذة المهنية) بأنه «نظام تعليمي قائم على المزاوجة بين تلقي المعلومات الأكاديمية والتطبيقات العملية بالمدرسة والتدريب في مواقع العمل بالشركات والمؤسسات».
بعض الدول تستخدم مصطلحاً مرادفاً «التلمذة الصناعية» للتعبير عن الشخص الذي يتعلم حرفة ما، بالعمل تحت إشراف صانع ماهر، بحيث يعمل معظم المتدربين لساعات منتظمة مدفوعة الأجر، وعند نهاية فترات التدريب يصبح هؤلاء التلاميذ عمالاً ماهرين. فمنذ العصور القديمة والتلمذة الصناعية آخذة في النمو والتطور، حيث بلغت أرقى أطوارها في الفترة الممتدة ما بين القرنين الحادي عشر والسابع عشر الميلادي، تحت رعاية تجمُّعات أصحاب الحرف الأوروبيين، واتسعت فيما بعد مجالات الحرف التي عمل فيها المتدربون، والتي شملت الرسم والطب وصناعة التخمير.
وفي المقابل تمَّ تدريب بعض الفتيات على المهارات المنزلية، وجرت العادة على إرسال الصبيان وهم في العاشرة من العمر للعيش مع مدربيهم، الذين كانوا يتولون رعايتهم ليصبحوا في المستقبل صناعاً ماهرين.
ومع ظهور الآلات التي تعمل بالبطاقة في الفترة ما بين أواخر القرن الثامن عشر ومنتصف القرن التاسع عشر حدث تحوُّل كبير على مستوى مقومات التلمذة الصناعية، حيث ظهرت العمالة غير الماهرة، لتقوم بتأدية الأعمال التي كانت تعتمد أساساً على المهارات اليدوية، مثل الحياكة وصناعة النسيج، ومع ذلك فالحاجة تزداد يوماً بعد يوم لوجود الحرف الأكثر دقة وتخصصاً.
يعدُّ مشروع «التلمذة المهنية» أحد المشاريع البحرينية لتحسين مخرجات التعليم، من خلال العمل على تزويد الطلبة بالمهارات التي يحتاجونها لسوق العمل، بالتعاقد مع «معهد هومسجلن» بأستراليا للعمل مع الفريق البحريني جنباً إلى جنب لتنفيذ هذا المشروع.
هذا المشروع يطرح برامج مطورة وحديثة تناسب الذكور والإناث في المساقين التجاري والصناعي، إضافة إلى تخصصات أخرى يتم اعتمادها وفقاً لمتطلبات سوق العمل، والأهم من ذلك أنه يؤكد ضرورة إشراك القطاع الخاص في إعداد المناهج والبرامج الدراسية ووضع المواصفات المهنية والتربوية وتدريب الطلبة على اكتساب أخلاقيات عمل مرضية، فالتواصل المستمر مع الحياة العملية يزيد من نضج الطلبة وإحساسهم بالمسئولية، ما يكسبهم قيماً وأخلاقيات قد لا يمكن اكتسابها نظرياً.
تنمية قيم العمل لدى الطلبة من أهم ركائز المشروع، وذلك بتوفير إرشاد وتوجيه مهني فاعل لاستكشاف ميولهم والفرص المتوافرة لديهم للتعليم أو التدريب أو العمل، بقصد الارتقاء بمستوى المهارات العملية لديهم، باعتبار أنه يقوم بربط التعليم بالمهنة التي سيلتحق بها الطالب مستقبلاً.
يقضي الطالب معظم وقته في التدريب الميداني، ليتعرف على مهارات المهنة داخل أسوار المدرسة، وذلك باعتماد استراتيجية المحاكاة والمشاريع، وآليات تقويم فعالة لقياس أداء الطلبة من حيث السجل اليومي للطالب، ووجود عقد رسمي موقـَّع من قبل الطالب وولي الأمر والوزارة مع الشركة المدربة.
يتمُّ تهيئة المعلمين في مشروع «التلمذة المهنية» للعمل في مراكز التوجيه، سواءً بوصفهم مرشدين مهنيين أو معلمين لمقرر الإرشاد وتطوير الذات، أو مشرفين ومتابعين للطلبة المدربين في الشركات والمؤسسات.
أعدَّت المناهج وصُمِّمت بصورة تكاملية تجمع بين الموضوعات الدراسية المختلفة، على أساس تكامل الخبرة والمعرفة والشخصية ومراعاة ميول الطلبة ورغباتهم والتمايز (الفروق الفردية بين الطلبة) والاهتمام بالأنشطة التعليمية المتنوعة، والتعلم التعاوني.
ما يميِّز المشروع هو تزويده الطلبة بالمعرفة الأكاديمية اللازمة التي تؤهلهم للحصول على الشهادة الثانوية العامة للتعليم الفني والمهني (المسار المتقدم / المسار التخصصي) ومواصلة الدراسة الجامعية، وإدراج تخصصات متعددة للمسارين الصناعي والتجاري، بحيث تناسب البنين والبنات، مثل إدارة الإعمال، والخدمات المالية، وتجارة التجزئة، والوسائط المتعددة، والميكانيكا، والإلكترونيات وتقنية الحاسوب وغيرها، إلى جانب إكساب الطلبة قاعدة ثقافية عامة لخطة دراسية متطورة تتضمن أنواع المساق (مساق الثقافة العامة ـ المساقات المساندة ـ المساقات التخصصية)، وإكسابهم مهارات حياتية تسهم في نجاحهم في حياتهم العملية، مثل التواصل مع الآخرين، والقدرة على حل المشكلات، واتخاذ القرارات المناسبة، والقدرة على التفكير الناقد، وتأصيل فكرة التعلم الذاتي، والتمكن من استخدام مصادر المعرفة والتقنيات المتطورة، وتوظيف تقنيات الحاسوب في العملية التعليمية التعلمية، وإتاحة الفرصة أمام الطلبة في السنتين الثانية والثالثة للتعرف على المهن المختلفة، من خلال إلحاقهم ببرنامج التدريب الميداني، والابتعاد قدر الإمكان عن الحشو والتكرار في المادة الدراسية، ومساعدة الطالب على اكتشاف ميوله وقدراته وتحديد مساره المستقبلي من خلال تطوير نظام حديث ومستدام للإرشاد والتوجيه المهني.
تطبيق مشروع «التلمذة المهنية» يتم في السنة الأولى (التأسيسية) من خلال اكتساب الطلبة مجموعة من المهارات الأساسية الأكاديمية والتطبيقية من خلال دراسة مجموعة من المساقات الدراسية، وفي السنة الثانية يتاح للطلبة المزيد من الوقت لإتقان المهارات الأساسية للتخصصات المطروحة، سواءً من خلال التدريب على رأس العمل أو أنظمة المحاكاة أو التعلم عن طريق المشاريع، حيث تتضمن الخطة الدراسية ساعات أكثر للمساقات التخصصية، إضافة إلى التدريب الميداني لدى الشركات والمؤسسات بسوق العمل بما يعادل ستة أسابيع، أما في السنة الثالثة (الأخيرة) فالطالب يلتحق بالفرع التخصصي أو المتقدم، وذلك بحسب قدراته وميوله وإمكاناته، حيث يمضي جزءاً أساسياً من البرنامج الدراسي في التدريب الميداني بسوق العمل في المدرسة لإتقان الكفايات الأساسية للمهن.
وتأسيساً على ما سبق ذكره فإن المطلوب منا هو العمل على تغيير نظرة المجتمع الدونية إلى العمل اليدوي بوجه عام، وإلى التعليم الفني بوجه خاص.
قبل سنوات وعند إجراء دراسات مسحية لعدد من الشركات في البحرين، تبيَّن وجود فجوة بين المهارات المطلوبة في سوق العمل، والمهارات التي يكتسبها الطلبة خلال فترة الدراسة. استراتيجياً، فإن مشروع «التلمذة المهنية» سيساهم في الحد من تشغيل الأطفال مستقبلاً
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 3249 - السبت 30 يوليو 2011م الموافق 28 شعبان 1432هـ