اتجه الاتحاد السوفياتي نحو الواقعية في السياسة الدولية، بعد أزمة الصواريخ الكوبية العام 1962 وبعد إقامة سور برلين العام 1961 في حين اتجهت الصين للواقعية في السياسة الدولية بعد العام 1978، وإن بدت إرهاصاتها منذ أوائل السبعينيات بالانفتاح على الولايات المتحدة بزيارة كيسنجر السرية للصين، ما أدى إلى حصولها على مقعدها في الأمم المتحدة العام 1971.
واتسمت المرحلة الثالثة هذه بالنسبة للحزب الشيوعي الصيني بخمس سمات أساسية هي:
1 - التغير الجذري في فلسفة الحزب وسياسة الدولة بإطلاق سياسة الانفتاح والإصلاح التي دعا إليها الزعيم دنج سياو بنج العام 1978.
2 - تغير الشعار العملي للحزب إلى شعار «الاشتراكية بخصائص صينية»، كما تغير منهج العمل والإدارة والإنتاج إلى شعار «لا يهم لون القطعة أحمر أو أسود طالما تصطاد الفئران». بعبارة أخرى المهم النتيجة وليس الأداة والوسيلة. وفي السياسة الخارجية انتهجت الصين سياسة خارجية تركز على مفهوم «التنمية والسلام والتعاون»، وليس على مفاهيم نشر الثورة الشيوعية أو دعم الدول النامية من خلال المعونات والمساعدات المجانية. وقام التعاون الدولي على أساس مبدأ آخر وهو «دراسة الجدوى الاقتصادية للمشروعات في الدول النامية أو بالأحرى المبدأ الصيني التقليدي «علمني الصيد بدلاً من أن تعطيني سمكة».
3 - تغير القوى العاملة والمكونة للحزب عبر العقود الثلاثة من التركيز على البرولتياريا والفلاحين، إلى إدخال المثقفين ثم الرأسمالية الوطنية أو بالأحرى رجال الأعمال.
4 - تغير التركيز من الاقتصاد الزراعي والصناعة التقليدية إلى الاهتمام بالصناعات التكنولوجية وصناعة المعرفة.
5 - تحولت الصين من دولة فقيرة إلى دولة نامية كبرى - كما تطلق على نفسها - ولكنها من الناحية العملية أصبحت مصنعاً للعالم ومركزاً للإنتاج العالمي، ومن ناحية أخرى تركزت دبلوماسيتها الخارجية على السعي للحصول من مختلف الدول على المواد الخام الأولية اللازمة للصناعة مثل الحديد والرخام والمعادن المختلفة، إلى موارد الطاقة من النفط والغاز. وأصبحت الصين منافساً رئيسياً في السوق الدولية عبر القارات ومع مختلف الدول وفي مختلف المناطق الجغرافية.
وترتب على ما سبق خمس ظواهر مهمة:
الأولى: تراجع المفهوم الإيديولوجي لمصلحة مفهوم المنفعة المتبادلة.
الثانية: الحرص الشديد على عدم التورط في أية صراعات خارج أرض الوطن ونشر مفهوم التناغم داخلياً وخارجياً.
الثالثة: الانطلاق في الاستثمار في الخارج لتنويع محافظها الاستثمارية ما بين الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة وأوروبا والدول النامية.
الرابعة: ارتفاع مستوى المواطن الصيني اقتصادياً وتحقيق حاجاته الأساسية بعد أن كانت الصين تعيش مرحلة حد الكفاف الاقتصادي منذ وصول الحزب للسلطة حتى العام 1978، وكانت تواجه المجاعات وخصوصاً في الخمسينيات والستينيات حتى أوائل السبعينيات.
الخامسة: تحقيق إصلاح اقتصادي واجتماعي وإلى حد ما ثقافي مع الحفاظ على الدور القيادي للحزب في القرار السياسي.
ولقد أدى تطور فلسفة الحزب وإدخال عناصر جديدة فكرياً واجتماعياً في دستوره إلى بروز نوع ما من التعددية الفكرية والمنهجية والسلوكية في الحزب ما بين الجناح المحافظ والجناح الليبرالي الداعي لمزيد من الانفتاح. ولكن بقيت الأسس النظامية والدور المحوري للحزب في الدولة وإن تراجع ذكر اسمه كثيراً، وخفت شعاراته التقليدية. وهذا طرح التساؤل عن دور الحزب في المستقبل، بل التساؤل الأعمق ماذا بقي من الفلسفة والفكر الشيوعي في الصين الجديدة؟
ولعل ذلك ما دفع قيادات الحزب إلى القيام بحملات من حين لآخر للترويج للحزب ودوره المحوري. وهو في الحقيقة تحول إلى حزب حاكم يقود شتى مجالات الإدارة، ويسيطر على مفاصل القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ولكن من خلال المنهج المرن الذي يضع القواعد الرئيسية ويعين كبار المسئولين في مواقع الإدارة ويترك للقوى الجديدة الصاعدة حرية الحركة والتنافس والإنجاز
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3249 - السبت 30 يوليو 2011م الموافق 28 شعبان 1432هـ