عندما يتم الحديث عن القمع والاستبداد نجد دائماً ما يقتصر الحديث والنقد تجاه السلطات الحاكمة، ودائماً ما توجه الاتهامات بالقمع والاستبداد إلى تلك السلطات دون سواها. القمع والاستبداد سلوكيات وممارسات وثقافة ليست مقتصرة على السلطات الحاكمة، بل هي ذات صلة بالفرد الإنسان في أسرته وفي مجتمعه، هي ذات صلة بمؤسسات دينية ومجتمعية وبأحزاب ليست في السلطة، بل هي أحزاب تعد في موقع المعارضة للسلطات الحاكمة.
فالقمع الأسري يأتي عبر قمع رب الأسرة (وهو عادة الأب) لأفراد أسرته، نراه يقمع زوجته لتعيش في كنفه خانعة مستسلمة، نراه يقمع أبناءه، وقد يكون قمعه لبناته أشد قسوة من قمعه لأبنائه، بسبب كونهم إناثاً، أخذاً بالموروثات الاجتماعية. السؤال ما هو الانعكاس الناتج من هذا القمع على الإنسان ومن ثم على الوطن؟
هذا القمع إمّا أن يؤدي إلى خلق إنسان خانع فاقد للثقة بنفسه ضعيف الشخصية، وإمّا أن يؤدي إلى إنسان متمرد على أسرته وعلى مجتمعه وبما يؤدي به إلى الانحراف السلوكي؛ فإذا كان ذلك هو الانعكاس على الفرد، فإن ذلك بالتأكيد يؤدي إلى خلق مواطن ضعيف، أو إنسان منحرف متمرد على مجتمعه. هذا النمط من الأفراد لا يمكن أن يساهم في بناء وطن قوي، بل هؤلاء الأفراد سيكونون عالة على مجتمعهم وعلى وطنهم.
القمع إما أن يربي إنساناً يشعر بالخنوع والذل، أو إنساناً معاكساً لذلك تماماً أي إنساناً متمرداً، وقد يكون هذا التمرد إيجابياً وقد يكون سلبياً. فالإنسان الخانع الذليل والإنسان المتمرد سلباً كل منهما وجهان لنفس العملة.
السلطة التي تمارس القمع تجاه من يعارضها عبر وسائل القوة من سجن ونفي واضطهاد متعدد الأشكال، هي في الوقت نفسه تمارس نوعاً آخر من العنف حتى مع من لا يعارضها عبر تحويله إلى إنسان خانع مستسلم صاحب شخصية تابعة مطيعة. مثل هذه السلطة لا تبني إنساناً منتجاً مبدعاً، وبالتالي فإن مثل هذه السلطة لا تبني وطناً سليماً معافى. في البلدان التي تمارس حكوماتها القمع نرى الفساد بكافة أشكاله وأنواعه والنفاق والتزلف والسلوكيات السيئة متفشية في هذه البلدان.
الاصلاح والقمع ضدان وهما برزخان لا يلتقيان، فإذا كان هدف الإصلاح هو بناء الأوطان وبناء الإنسان، فهل قمع الإنسان وانتهاك حقه في رزقه ولقمة عيشه يبني إنساناً سوياً قادراً على المساهمة في بناء الوطن؟ إن القمع لا يمكن أن يبني إنساناً ولا يمكن لوطن أن يُبنى دون بناء لإنسانه.
هل يمكن للإنسان الخانع أن يبني أسرة سليمة، وهل يمكن لوطن أن يبنى دون بناء أسرة سليمة؟ فالقمع الذي يؤدي إلى الخنوع وتبويس اللحى لا يمكن أن يبني وطناً قوياً سليماً.
الوطن هو الإنسان بالدرجة الأولى، والإنسان هو الوطن، فالوطن الضعيف لا يمكن أن يبني إنساناً قوياً، وكذلك الإنسان الضعيف لا يمكن أن يبني وطناً قوياً، فالوطن والإنسان متلازمان، فالوطن القوي يعني مواطناً قوياً، والمواطن القوي الواثق من نفسه ومن قدراته يعني وطناً قوياً.
إن نتاج ثقافة القمع في بلداننا العربية أنتجت لنا القائد الملهم، القائد الفذ، الله وسورية وبشار وبس، القائد الضرورة.
ماذا عمل القائد الضرورة صدام بالعراق؟ وماذا عمل الأسد الأب والأسد الابن بسوريا؟ ماذا عمل مبارك بمصر؟ وماذا عمل قائد الجماهيرية الملازم الذي جاء على ظهر دبابة وبقدرة قادر أصبح عقيداً فملك الملوك؟ وماذا وماذا التي تطول ولا تنتهي؟ كلهم وجميعهم نتاج ثقافة القمع والقهر والاستبداد.
القمع ليس جسدياً فقط، بل هو معنوي ونفسي وتربوي. المناهج التعليمية تؤسس لثقافة الخنوع والقبول أحياناً بقصد، وأحياناً كثقافة متوارثة دون إمعان للعقل لدى واضعي البرامج التربوية والثقافية.
الأحزاب في داخلها تمارس قمعاً من قبل القائمين عليها ضمن صفوفها أو ضد المختلفين معها. الطوائف في داخلها تمارس قمعاً ضد المنتمين لها وبالطبع ضد المختلفين معها. هذه المؤسسات تمارس القمع بدرجات مختلفة كتسفيه المختلف معها أو بلصق شتى أنواع التهم بالمختلف معها، بل وتصل أحياناً بالتصفية الجسدية لبعض المختلفين معها. فهل مثل هذه الثقافة تبني إنساناً حراً يفكر بعقله يمكن أن يساهم في عملية البناء؟
نحن نعيش منظومة ثقافية تشجع البعض على ممارسة القمع حتى ضد نفسه وضد مصالحه، منظومة تجعلنا نقبل بالقمع والاستبداد الذي يمارس ضدنا، وبما يجعلنا نبرر للدكتاتور والمستبد ولأجهزة القمع تسلطهم واستبدادهم وقمعهم، طوراً باسم العائلة وطوراً باسم القبيلة وطوراً باسم المذهب والدين، بل وباسم القائد الملهم الفذ!
ليس بالضرورة أن يكون القمع عنيفاً، يمكن للقمع أن يتخذ صوراً لينة عبر العطايا والهبات وبما يكسر إنسانية الفرد ويجعله تابعاً خانعاً ذليلاً.
ثقافة القمع والاستبداد لا تبني فرداً مواطناً. ثقافة القمع والاستبداد لا تبني أسرة سليمة معافاة. ثقافة القمع والاستبداد لا تبني جمعية أو حزباً أو مؤسسة. في المحصلة النهائية فإن ثقافة القمع والاستبداد لا تبني وطناً
إقرأ أيضا لـ "شوقي العلوي"العدد 3243 - الأحد 24 يوليو 2011م الموافق 23 شعبان 1432هـ
جرأة شوقي النادرة
الأخ الكريم شوقي، الكثير منا يشاطرك الرأي. ما ميزك عن الجميع أنك أعلنتها بصراحة في شجاعة منقطعة النظير.
المزيد استاذ من هذه المقالات الرائعة
هذا هو المقال الذي ننتظره أستاذ القمع والاستبداد ولد لدينا شعور بالإحباط والسلبية والسكوت علي الحق وجعلنا أدوات يتحكم فيها رجال الدين . علينا أن نعيش في الماضي ونحضر التاريخ بكل ماسية وعلينا إن نكره الأخر لأننا نعتقد أن أجداده قتلوا أجدادنا ولله يقول تلك امة خلت ؟ كل طفل يولد علينا ان نسقيه الماضي ليكره الحاضر وينصب العداء للآخر
الرجاء النشر
(ماذا عمل القائد الضرورة صدام بالعراق؟ وماذا عمل الأسد الأب والأسد الابن بسوريا؟ ماذا عمل مبارك بمصر؟ وماذا عمل قائد الجماهيرية الملازم الذي جاء على ظهر دبابة وبقدرة قادر أصبح عقيداً فملك الملوك؟ وماذا وماذا التي تطول ولا تنتهي؟ كلهم وجميعهم نتاج ثقافة القمع والقهر والاستبداد).
..........
مواطن هويته الانتماء الى الوطن فقط
شكرا الى الاخ شوقي العلوي على هذه المقالة الرائعة التي فعلا لامست الجرح ، نعم القمع والاستبداد ليس محصورا في نطاق السلطة بل السلطة القمعية هي نتاج ثقافة مجتمعها القمعي والاستبدادي ، وكما هو الاستبداد نجد السرقة مع تفاوت النسبة وكما في الاستبداد الذي يتستر خلف شعارات وقيم هي داتها السرقة ، نعم قد لا اعرفك بصورة شخصية مباشرة لكني اعرف فيك عقلك وبطاقة تفكيرك اللذان انتمي لهما بارك الله فيك متمنيا ان نرى عقلك النيّر دائما يسطع نوره على صفحات هذه الجريدة