هل هي أزمة عقل أم أزمة ضمير؟ وأيهما أكثر تأثيراً على الآخر؟ السؤال هنا لا ينطلق للتخصيص أو تقسيم عقل العالم من حيث مكانه وزمانه الذي يتحرك فيه. عالم متخلف وآخر متقدم. منتج ومستهلك. متبوع وتابع.
تتجاوز ذاتك إلى ذات العالم. إذا أصيبت ذات العالم بعطب فأنت في الصميم من العطب. إذا انتبه ضميره فأنت في عمق ذلك الانتباه. إذا تأزم فأنت في اللب من ذلك التأزم.
لا أحد بمعزل عن أحد في هذا العالم القادر على أن يكون قريباً منا في ثوراته المعرفية ولكنه يظل بعيداً عنا في الوقت نفسه حين يعطب عقله وضميره. حين تتضخم الذات لديه فلا يرى أحداً. لا يرى إلا الأقوياء وأصحاب السطوة ومشروعات التقسيم والتجزئة والتمييز. عالم كهذا مهما بدا رحباً يظل أضيق من قبر.
كل استضعاف يبدر من طرف إزاء طرف لا ينتج عنه إلا العبث. ولذلك مقدماته وشواهده. إغراءاته ومحفزاته. لا أحد يستضعف أحداً في وسط صحي ومعافى. الاستضعاف مردّه الفراغ وغياب القانون. يتحول كل فرد أو جهة من ذوي السطوة إلى قانون قائم بذاته. يشيعه ويمارسه في الوسط الذي يهيمن عليه. هو قانون بمفهومه لكنه ارتداد وتراجع وانحياز إلى عالم ما قبل الغاب. ما قبل تشكل الاتفاق والانسجام والألفة بين الجماعات البشرية.
كلما تضخمت الذات كلما انكمش حضور الضمير. لا ضمير يمكن له أن يكون حاضراً فاعلاً مؤثراً ومنتبهاً في تضخم الذات وسطوتها وشهوتها وذهابها المنحرف والمدمر. أكبر أزمات العالم اليوم هو غياب الضمير فيه وغياب الضمير فيه مرجعه وسببه هيمنة التضخم في الذات.
لا نتحدث هنا فقط عن تضخم الذات لدى الفرد. ثمة دول تتبنى صناعة ذلك التضخم في الذات وإن جاءت صناعة في أوساط من تنتخبهم وتصطفيهم وتعينهم رسلاً لها في هذا المضمار. وفي المحصلة النهائية تتبنى تلك الدول صناعة أزمة الضمير في أوساطها ولن تتردد في تعميم وتصدير تلك الصناعة خارج حدودها مادامت أوساط تلك الحدود على توافق وانسجام مع رؤيتها وتوجهها.
لم يتجاوز أدونيس الحقيقة في «أفق المعنى»: «ما أغرب حياتنا العربية: الموتى الذين يبعثون أكثر من الأطفال الذين يولدون». ذلك تقريب بسيط لحقيقة الحال وعمق الرعب والخلل فيه. في حياة عربية لا حياة فيها. لا حياة فيها بسيادة الذات الناهبة - لا النابهة - لثروات الأمة تصرفاً واستنزافاً واستغلالاً وتوجهاً لتعميق وتكريس تلك القوة «الرخوة» في ذات الفرد المنقذ. الفرد الاستثنائي الذي لا يشبهه أحد ولا أحد يجرؤ على الطعن في صفاته. لكأن الطعن في صفاته طعن في صفات الله!
جل بناظريك في حياة عربية تكرس الوهم أكثر من تكريسها للحقيقة وتكرس الكلام أكثر من تكريسها للفعل والإنجاز وتكرس اليقين أكثر من متاخمتها للشك الفاعل والمحصن وتكرس الاحتواء في جانبه المرضي والمظلم أكثر من تكريسها للخيارات التي تصنع الحياة ولا تشلها وتضيف إليها ولا تصادر شيئاً من قيمتها وقيمة إنسانها وحتى أشيائها. لن تقف إلا على ما يغريك على البحث عن أقرب قبر تواري سوأة حضورك فيه. إذ لا معنى لحضور يصادر قيمتك... ذاتك... معناك.
العقل المنحرف المجنون اليوم يرى في نتائج انحرافه وجنونه المدمر ضمير العالم. العقل نفسه من حيث مواصفاته تلك يعبر عن ذات منحرفة ومجنونة ومدمرة ومصادرة ويراد لها في لحظة نشوة أن تكون معبرة عن «ضمير العالم». فقط في عالمنا. عالمنا الموبوء بتجيير النصوص. حتى الديكتاتوريات لدينا تكون على تماس بالدين فقط في موقف استغلال وتحريف فهم ورؤى تتماشى وتكرس حضورها القميء والمذل والفادح.
فقط أسأل: هل في العقل ضمير؟ هل في الضمير عقل؟
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3243 - الأحد 24 يوليو 2011م الموافق 23 شعبان 1432هـ
الضمير والعقل
اسقاط جميل على واقع العلاقة بين الضمير والذات اصبت بفعله كبد الحقيقة التي نحن في حاجة الى فهم مفاصلها في واقع اليوم للتمكن من الولوج الى عاقلية العلاقة ين مكوننا الاجتماعي الذي تميز بعلاقاته الخيرة لعقود.
نحن مطالبون ان نفهم تلك الحقيقة وتحكيم عقلنا وضميرنا بعيد عن الذاتية المفرطة التي اضحت ظاهرة غير مستحسنة ترفض تقبلها خلايا جسمنا المجتمعي.
القصباء