أدرك الجميع ما لأغلب الأنظمة العربية من مساوئ. بالتأكيد فإن الأمر لا يحتاج إلى كثيرِ نظر أو إعمال للتفكير. يكفي أن يسقط دم غزير برصاص الأمن لمتظاهرين سلميين، ويعتقل المئات بل والآلاف منهم ويُعذبوا لكي نفهم ذلك، فضلاً عن آثام الماضي من فساد واستئثار بالسلطة، وتمييز وتطييف وتخوين وتسفيه لممارسات ومطالب الشعوب بالعدالة والحرية.
لكن (وفي الـ «لكن» عادة عُمدة القول ومنتهاه) يبرز في الجانب الآخر صورة ضبابية مُتشككة لأوضاع المعارضات السياسية العربية التي تحمل لواء المناكفة للأنظمة المستبدة ومناهجها ومسلكها، يجعلنا نضع أمامها العشرات من علامات الاستفهام المشروعة والمحقَّة، والتي تحتاج ليس إلى إجابات رقميّة شافية فقط، وإنما لتطمينات لهذه الشعوب العربية التي تتوق إلى التغيير بضمانات التغيير ذاته وليس التّوْق إلى الأسوأ مما كان بهم من حال، كما جرى لأحبتنا في العراق منذ الاحتلال الأميركي وإسقاط نظام البعث الحاكم.
فالتغيير الذي حصل في تونس ومصر وما يجري الآن في ليبيا وسورية واليمن والعراق وغيرها من البلدان المهزوزة تنبأ بما هو محذور، هكذا يظهر. فالقوى السياسية التي تقود مشروع المناهضة للأنظمة يبدو أنها تسير بغير هُدىً، ولا اتفاق ولا وفق خطط تالية لمشروع التغيير. فاتفاقها قائم فقط على إسقاط النظام السياسي وما دونه يبقى خلاف وتباين حتى يأذن الله. بل إن البعض من هذه المعارضات لم يتأخر في إبراز ما يفيض من الخلافات مع قوى معارِضة أخرى تختلف معه في القومية والهوية حول ملفات مصيرية ومهمّة لبُلدانهم.
ما جرى في تركيا وخلال اجتماع للمعارضة السورية كان مثالاً على ذلك. وما يجري في ميدان التحرير في مصر اليوم هو كذلك أيضاً، واليمن ليس ببعيد عن ذلك الجو. وما يُمكن أن يقال هنا للسياسيين في المعارضات العربية (وهم أدرى منا بهذا) أن إسقاط الأنظمة أو تقليمها أو تحويلها من الاستبداد إلى الرُّشد ليس هو كلّ المشروع السياسي البديل. بل إن ما يعقب التغيير هو الأهم لأنه هو المعني بالبناء. والبناء يعني اتفاق على هندسة ما سيُشيَّد وحدوده.
أول ما يمكن للمعارضة العربية أن تستدركه هو إقامة الوازن السياسي المعارض بين الداخل والخارج. فبسبب غياب التمثيل الصحيح والنظام الديمقراطي المدني، تحوّلت الكثير من المعارضات السياسية من العمل في الداخل إلى العمل في الخارج (المنفى الاختياري أو القسري)، الأمر الذي جعلها لا تملك صلة بالداخل إلاّ من خلال الهاتف، وهو أمر خطير جداً، من حيث إنه يُبعد مأمول الخارج عن معقول الداخل من ناحية السقوف والمطالب، فالخارج البعيد عن الضغوط المباشرة لا يعرف حدود قوة الداخل فيطلب منه «الصَّدر دون العالمين أو القبرُ»، وهذا ما لا يجوز لا في السياسة ولا في الاجتماع ولا في الحصافة العملية ولا العلمية.
أمر آخر يتعلق بالاتفاق (أولاً، أولاً ثم أولاً) على ملفات الوطن المصيرية. شكل الحكم، السياسات الاقتصادية والثقافية والنواحي الدينية والاجتماعية. مصير الأعراق والإثنيات وسط وجود مشارب ومِلل ونِحَل بشرية مختلفة. إذ لا يُعقل أن ترحَّل كل هذه الموضوعات الحساسة وذات الممارسة اليومية إلى ما بعد التغيير الجذري أو الجزئي في النظام ما دامت هي الأصل في العمل السياسي اللاحق كله، لأنه باختصار تأجيل لمؤجّل وتعليق لمعلّق لا أكثر، وهو ما وجدناه بالتحديد بالنسبة لأكراد سورية الذين كان موضوعهم أول إسفين للخلاف داخل المعارضة السورية.
في مسألة التغيير يُمكن من خلال التحالفات الصلبة أو استبدال الطاعة الفردية والجماعية الداخلية من الشعوب تجاه الدولة بعصيان يُفقدها قيمة الأمر وصِدقيته (لا أمرَ لِمَن لا يُطاع) فتنهار، لكن أن تأتي لاحقاً وتتفق في المرحلة الانتقالية فهذا أمر غاية في التعقيد والمجازفة، لأن الموضوع باختصار قائم على مصالح الداخل، تلك المصالح المعقدة والمبنية على الهويات والإثنيات والاتجاهات التي أعملتها السياسة الخاطئة طيلة سنين خلت، حتى شكَّلتها على هيئة جسم ممسوخ ومُشوَّه وقاتم لا يُمكن الاعتماد عليه أبداً. لنا في الثورتين الفرنسية والأميركية خير مثال. ففي الأولى وإن كان فيها لا متسرولون ويعاقبه وجيرانديون إلاَّ أن حال الاختلاف لم يكن على موضوعات وطنية ثورية ثابتة، وإنما كان في أقصاه على موضوع استبداد الحرية والجدل الذي تمّ في الجمعية الوطنية وصراعات روبسبيير. أما في الوضع الأميركي، ورغم أن العالَم الجديد كان موزاييكاً بشرياً قادماً من أوروبا، إلاّ أن التفاهم على قضايا الدولة التي أنتجتها الثورة كان قد تمّ التوافق عليه بشكل حاسم ولم يُترك للوقت. وإن حصل هناك تغيير في الدستور لاحقاً فهو في التجربة ذاتها وفي تطورها الطبيعي القائم على الممارسة وليس في الأصل.
ما يُمكن اختصاره هنا، هو أن إرهاصات الثورة عادة ما تكون سابقة للحدث نفسه. وبالتالي فإن هذه الإرهاصات عادة ما تكون فرصة سانحة لإقامة سقف جامع ومُتفق عليه قبل أن يحين موعد التغيير. أما إذا حصل التغيير دون أن يكون هناك تفاهم اجتماعي فلا أعتقد أن الثورات ستعطي الشعوب ما يمكن توقعه في العادة، وبالتالي يذهب بريقها بالكامل أو يتصدّع. (وللحديث صلة)
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3241 - الجمعة 22 يوليو 2011م الموافق 20 شعبان 1432هـ
صراحة
استاذ بصراحتك المعهودة وفكرك النير ما حصل في البحرين تضعة في اي خانة ولك الشكر
ملاحظة
أول ما يمكن للمعارضة العربية أن تستدركه هو إقامة الوازن السياسي المعارض بين الداخل والخارج
طريق التغيير لا بد أن يمرّ ببعض العثرات
هي سنة الحياة التغيير لا بد أن يثير نوعا من عدم الراحة والطمئنينة ولو بنسب متفواتة حتى في الأعمال وفي الدراسة التغيير مقزز نوعا ما للبعض لمن يألفوا
الدعة والسكينة هناك ناس يفضلوا البقاء على الوضع السيء على التغيير للأحسن بسبب الخمول والكسل وهذا أمرر ممقوت لأن الله جبل الخلق على التغيير والرقي والتطور من أول رسالة حتى الرسالة الخاتمة
كما كان البعد في التشريع
لا بد لبعض المساويء يمكن التغلب عليها إن أخلصت النيات في العمل خاصة بالنسبة لقبول الإختلاف وجعله
مدعاة للإبداع