وجهت الانتخابات التركية حزمة من الرسائل التي ينبغي أن تقرأ جيدا، ليس في تركيا وحدها وإنما في مصر والعالم العربي أيضا، وهذه الأخيرة هي الأهم عندي.
الرسالة التي وجهها الأتراك إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم تقول ما خلاصته إن الشعب التركي يريد أردوغان رئيسا وليس سلطانا. لقد صوتوا له ولحزبه بمعدل واحد من كل ناخبين اثنين. وحين حصل على 50 في المئة من الأصوات كانت تلك هي المرة الثالثة في التاريخ التركي المعاصر، إذ لم يسبقه إلى ذلك سوى اثنين هما عدنان مندريس في العامين 1950 و1954 وسليمان ديمريل العام 1965، كما أنها المرة الأولى التي يحتفظ بها حزب واحد بالغالبية، يشكل الحكومة منفردا في ثلاث دورات متتالية.
وبشهادة الجميع، كان أداء الحزب في الانتخابات ممتازا، على الأقل من حيث حرصه على أن يمثل مختلف شرائح الشعب التركي واتجاهاته الفكرية والسياسية والعرقية، خصوصا العلويين والأكراد.
كانت للحزب مرشحة يسارية في اسطنبول هي عائشة نور، واستطاع أن يدخل إلى البرلمان 78 سيدة، أغلبهن من أنصاره، وقد كن 50 في الانتخابات السابقة، ومن بين ممثليه عن اسطنبول شاب عمره 26 سنة اسمه بلال مجيد، وبهذه التركيبة الثرية قدم حزب العدالة والتنمية نفسه بحسبانه حزبا وطنيا يمثل الأمة بمختلف مكوناتها وليس حزبا إسلاميا يمثل فئة بذاتها.
إذا أضفت إلى ذلك النجاحات التي حققها الحزب على صعيد الاستقرار وفي مجال التنمية الاقتصادية والفاعلية السياسية، فإنك تستطيع أن تدرك لماذا صوتت أغلبية الناخبين لصالحه ولماذا حقق فوزه الكبير، لكن الواضح أن المجتمع التركي أراد أن يجعل الفوز مشروطا، بحيث يمكن حزب العدالة ورئيسه من تشكيل الحكومة، لكنه لا يطلق يده في تعديل الدستور منفردا، كيف؟
كنت قد ذكرت من قبل أن أردوغان أعلن على الملأ أن إحدى المهام الأساسية للبرلمان الجديد هي إصدار دستور جديد يؤسس للجمهورية الديمقراطية، بديلا عن الدستور الذي أصدره العسكر في العام 1982، لترسيخ أقدام الجمهورية الكمالية الخاضعة لسلطة العسكر والتطرف العلماني. وهو ما اعتبرته ميلادا جديدا ينقل تركيا من ولاية العسكر إلى ولاية الأمة، وإذا كان الانفراد بتشكيل الحكومة يتطلب الحصول على غالبية، فإن إصدار الدستور الجديد من جانب حزب العدالة يتطلب فوزه بغالبية الثلثين، والذي حدث أن حزب العدالة والتنمية فاز بغالبية الأصوات حقا، لكنه لم يكمل نصاب الثلثين، وهو ما يعني أن طريقه أصبح ممهدا لتشكيل الحكومة، أما طريقه إلى تعديل الدستور فقد أصبح شائكا وملغوما.
لقد كان حزب العدالة يرنو للفوز بـ 367 مقعدا في البرلمان (550 عضوا) لكي يعدل الدستور مباشرة أو 330 مقعدا ليستفتي الشعب على التعديل، ولكنه فاز بـ 326 مقعدا فقط، الأمر الذي غل يديه فيما انتواه وتعين عليه أن يتفاهم مع الأحزاب الأخرى في هذا الموضوع، ولكن ذلك ليس أمرا سهلا، وهو أكثر تعقيدا مما يبدو على السطح.
تتحدث الطبقة السياسية في اسطنبول عن أن فكرة إعداد دستور جديد ينقل السلطة من العسكر إلى الأمة أمر لا خلاف عليه، لكن ثمة خلاف جوهري حول مسألة التحول إلى النظام الرئاسي التي يتبناها رئيس الوزراء الحالي رجب طيب أردوغان. وكما قال لي نائب رئيس حزب الشعب أوغوز ساليشى فإنهم متفقون مع الحزب القومي الممثل في البرلمان على رفض ذلك النظام لسبب جوهري، وهو أنه يشكل خطورة في بلد ثقافته متأثرة بنظام السلطة العثمانية الذي استمر ستمئة عام. ولهذا فإنهم يعتبرون أن النظام البرلماني يوفر ضمانات لحماية الديمقراطية في تركيا بأكثر من النظام الرئاسي.
في هذا السياق فإن البعض يرون أن النظام الرئاسي يشكل أحد الخيارات المتاحة أمام أردوغان، الذي لا يسمح له قانون حزبه بتولي رئاسة الحكومة لثلاث مرات متتالية. ولأن هذه هي فرصته الثالثة والأخيرة فإن أمامه ثلاثة خيارات لمستقبله، إما أن يترشح للرئاسة بعد ذلك بما يخرج الرئيس الحالي عبدالله غول من الساحة (يرشحه البعض لسكرتارية الأمم المتحدة). وإما أن يخرج من السلطة ويتفرغ للحزب مدة أربع سنوات ثم يعود للترشح مرة أخرى لرئاسة الحكومة بعد ذلك. الخيار الثالث أن يقر الدستور النظام الرئاسي فيصبح هو رئيس الدولة وهو رئيس الوزراء في الوقت نفسه، وذلك هو الخيار الأفضل له.
يزيد من صعوبة تمرير التعديل الدستوري بالصورة التي يريدها أردوغان أن البرلمان الجديد يضم عناصر قوية من حزب الشعب والحزب القومي إضافة إلى قوة الأكراد الصاعدة (لهم الآن 36 نائبا، وقد كانوا 20 فقط في انتخابات العام 2007).
لهذا السبب فإن ثمة أصواتا تحدثت عن أن موضوع الدستور الجديد قد لا يصدر في ظل وجود البرلمان الحالي، وهو الذي عبر عنه صراحة الكاتب التركي مصطفى أوزجان. وإذا صح ذلك فإنه قد لا يؤثر على قوة وثبات حزب العدالة والتنمية، لكنه قد يضع أردوغان أمام خيارات صعبة لا يفضل أيا منها بعد أن أدرك أن المجتمع التركي يريده، لكنه ليس راغبا في أن يعطيه صكا للمستقبل على بياض.
ما خصنا من رسائل الانتخابات التركية أقرب إلى الدروس التي يتعين استيعابها والاعتبار منها. سأضرب ثلاثة أمثلة مستقاة من سلوك حزب العدالة والتنمية الذي يعرف الجميع جذوره الإسلامية، باعتبار أنه خرج من عباءة حزب الرفاه ذي الاتجاه الإسلامي الصريح الذي أسسه البروفيسور نجم الدين أربكان (توفي هذا العام).
وكان أردوغان مسئول الشباب في الحزب في مدينة اسطنبول ثم رئيس الحزب بالمدينة، وبهذه الصفة رشح لرئاسة بلدية اسطنبول في العام 1994، ودخل السجن بسبب انتمائه للحزب، وحين خرج طور من أفكاره وأسس مع بعض رفاقه حزب العدالة والتنمية العام 2001، وفاز بالأغلبية في العام التالي مباشرة.
ولأن حجاب الرأس يشكل علما ورمزا له أهميته البالغة في تركيا جعلته بمثابة حد فاصل بين الانتماءين الإسلامي والعلماني، فإن تهمة الأسلمة ما برحت تلاحق رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء لمجرد أن زوجتيهما محجبتان، وكذلك الحال مع أغلب قيادات الحزب، مع ذلك فتعال نَرَ كيف تعامل الحزب مع المجتمع ومع الانتخابات.
الملاحظة الأولى أن الحزب ظل يقدم نفسه بحسبانه مشروعا لخدمة الناس وليس منبرا لوعظهم. وقد فهم السياسة ليس بحسبانها فن الممكن كما هو التعريف السائد في الغرب، ولكنه تعامل معها من منظور فقهائنا الذين قالوا إنها كل ما كان به الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد.
بالتالي فإن الحزب اختار من البداية أن يقنع الناس بأنه أنفع لهم من غيره، وأنه مؤتمن على مصالحهم ومشغول بهمومهم وأوجاعهم. ومن ثم ترجم السياسة إلى ضرورة أن يكون حالهم أفضل وحلمهم أقرب إلى التحقيق. وكان ذلك هو الباب الذي دخلوا منه إلى البلديات، حيث تنافسوا على خدمة الناس. الأمر الذي أوصلهم بسهولة إلى قلوبهم. وهي رسالة أهديها إلى التيارات الإسلامية التي تتسابق الآن على تشكيل الأحزاب وأعينها معلقة على المؤسسات السياسية ومدارج السلطة، ولم نر أحدا منها مشغولا بالمجتمع وخرائطه.
الملاحظة الثانية تتمثل في الجهد الذي بذله حزب العدالة لاحتواء الأطياف المختلفة على النحو الذي حوله إلى حزب وطني مهجوس بمستقبل الأمة وليس مشروع الجماعة، إذ حين يستعرض المرء هويات المرشحين واتجاهاتهم يدهشه أن قادة الحزب كانوا مشغولين طول الوقت بقضية النهوض بالوطن وليس تعزيز موقع الجماعة، مدركين أن الوطن غاية والحزب وسيلة، وهي المعادلة المختلة عندنا، حيث تتعدد لدينا الشواهد الدالة على أن الجماعة أو الحزب هو الغاية بينما الوطن مجرد وسيلة تستخدم لتقوية الغاية.
الملاحظة الثالثة تتمثل في موقف حكومة حزب العدالة وقيادته من قضية الحجاب الذي لايزال العلمانيون المتطرفون يعدونه خطرا يهدد الجمهورية والعلمانية. ولايزالون يرفضون تصديق أن زوجتي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء محجبتان، ويرون ذلك من الكوارث التي حلت بالبلاد منذ سنة 2002. ومعلوم أن القوانين التركية تمنع دخول المحجبات إلى دواوين الحكومة والمؤسسات الرسمية، كما تمنع انتظامهن في المدارس والجامعات الحكومية.
ولكن هذه القبضة تراخت نسبيا بضغط المجتمع بالدرجة الأولى منذ تولي حزب العدالة والتنمية للسلطة. ولكن الحجاب لم يسمح به قانونا. وحين صوتت غالبية أعضاء البرلمان على الإلغاء في العام 2007. فإن ذلك استنفر أركان المعسكر العلماني الذين تحركوا لرفع قضية أمام المحكمة الدستورية العليا لحل حزب العدالة والتنمية بما يؤدي إلى إسقاط الحكومة وإجراء انتخابات جديدة.
وكانت النتيجة أن سحب المشروع بسرعة لتجنب أزمة سياسية كبيرة تهدد استقرار واقتصاد البلاد. وحين طلبت بعض المحجبات أن يترشحن للانتخابات البرلمانية الأخيرة، فإن قيادة الحزب آثرت عدم الاستجابة لطلبهن، لتجنب تأزيم الموقف في البرلمان، فضلا عن التذرع بهذه الخطوة لحل الحزب وإخراجه من المشهد السياسي.
حين ناقشت بعض القيادات في الموضوع فإنهم قالوا إن ذلك القرار اتخذ في ضوء موازنات تمت بين الضرر الأصغر والضرر الأكبر، وإن مسألة الحجاب تحل بالتدريج وطول النفس؛ لأن المحجبات دخلن إلى مجالس البلديات، وليس ثمة عجلة في إدخالهن إلى البرلمان. وهناك مصلحة مجتمعية في زيادة تمثيل النساء في البرلمان من 50 إلى 78 سيدة، وهذه تتقدم على المصلحة التي تترتب على ترشيح عدد محدود من المحجبات، فضلا عن أن هذه الفرصة لابد آتية يوما ما، في الانتخابات القادمة غالبا، وذلك درس في التدرج والموازنة يصعب على كثيرين الاقتناع به في بلادنا.
الرسالة الأخرى التي يصعب على كثيرين استيعابها في المشهد التركي هي أن حزب العدالة والتنمية رغم أنه يعد نفسه حزبا وطنيا ومدنيا وليس حزبا إسلاميا، فإن الباحث المدقق يستطيع أن يلحظ أنه يتحرك في إطار المقاصد الإسلامية، التي توصف في الأدبيات السياسية بالمرجعية الإسلامية. وهذه نقطة تحتاج إلى تحرير.
وقبل أن أستطرد أذكر بأن ما أسجله هنا هو اجتهادي الشخصي وليس منسوبا إلى أحد من حزب العدالة والتنمية. ذلك أنني أفرق بين المقاصد التي هي الأهداف الكلية والعليا، والوسائل أو الأحكام التفصيلية. ومحور المقاصد هو إقامة العدل وتحقيقه بين الناس، باعتباره أمر الله وكلمته بنص القرآن. ويدخل فيه احترام كرامة الإنسان وحقه في مقاومة الظلم وممارسة الحرية والشورى، وتحرير عقله وعصمة دمه وعرضه وماله... إلى غير ذلك من المقاصد التي تشكل ساحة رحبة للقاء مع الآخرين، وطريقا واسعا للنهوض بالمجتمعات.
وهي هنا مرجعية إسلامية، لأن لها تأصيلا شرعيا يدعمها ويؤسس لها. أما تنزيل تلك المرجعية على أرض الواقع فيختلف من مجتمع إلى آخر. فهناك مجتمع يقبل المقاصد وليس مهيأ لاستقبال الوسائل كما هو الحاصل في تركيا، وهناك مجتمع آخر يحتمل الاثنين. وفي كل الأحوال فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، والله أعلم
إقرأ أيضا لـ "فهمي هويدي"العدد 3241 - الجمعة 22 يوليو 2011م الموافق 20 شعبان 1432هـ
أحسنت
أحسنت هدفا وكتابة وصنعا وفكرا وقوة وتغييرا وحقا ولك منا ومن الله الشكر الجزيل والحمدلله رب العالمين