أستريح اليوم قليلاً من عناء أفكار حنَّة أرِنْدت، التي تناولنا جزءاً من كتابها القيِّم المُسمَّى بـ «في الثورة - On Revolution». أفكارٌ بها عِلم غزيز، وفلسفة راشِدة، وتاريخ متماسك لكنها جميعاً عصِيَّة على الهضم السريع والسهل. وقد علَّمتنا التجربة جميعاً، أن القراءة الأفقية والسطحية هي ترَفٌ يَزِن ذات الترف الذي يُنتجه قتل الوقت بِفِيهٍ يَفْغَرُه أحدنا وهو يتوَسَّد العَتَبات والطرقات، ليس له من هَمٍّ سوى الحَمْلَقة في المارَّة. أما القراءة العمودية والجادَّة فهي التي تمنحنا الإدراك والفهم وأيضاً التنازل عن أفكار أينَعَت وحان قِطافها.
اليوم أكتبُ عن شيء مختلف تماماً، لكنه ذو وشِيجَة قويَّة بالحِس الإنساني ألا وهو المشِيْب! وقد آثرت أن أجعل تناولي لبعض القضايا الاجتماعية والإنسانية (ما أمكن) دَيْدَناً لي في مقالات نهاية الأسبوع لما لها من تلمّظ مختلف، سواء بالنسبة لي أو لغيري كما أدّعي. فقد يمنح القلب عقلاً، لكن العقل لا يمنح قلباً أبداً مثلما كان يقول الفرنسيون في أدبهم.
وبالعودة إلى العنوان، فقد ذكِرَ في مقاييس اللغة، أن الشَّيْب هو بياض الشَّعر، والمشيبُ: دخولُ الرَّجُل في حدِّ الشَّيبِ من الرِّجال ذوي الكِبَر. جماع القول فإن مرحلة المشيب (والتي إذا ما أدركها الإنسان) تعتبر من أدق المراحل العُمريّة التي يمرّ بها البشر، حين يعودون فيها كالعرجون القديم، فالصّحة بها تنحسر، والوجه يتلوَّى تحت سياط التجاعيد، أما الأحاسيس والمشاعر فإنها تصبح كالزجاج الذي لا يقوى على خرمشات الأظافر الحادة فضلاً عن الكَسْر، ويصبح الكهل كالطفل الذي لا يقوى على شيء، بل ربما يلجأ إلى البكاء للتعبير عن حاله. وعندما يتقدم به العمر تراه يَهْجر بكلام لا معنى له كالطفل الصغير تماماً.
وقفتُ على أحدهِم وقد بلغ مِن الكِبَرِ عِتِيّا. وجدته مُحدَوْدَب الظهر، وقد التصَق جلده بعظمه حتى بانت عروقه على كامل جسَدِه، كأنها أزِقَّة ارتسمت على بَلْدَة صغيرة. عيناه بها رَمَدْ شديد، يؤذيه كأنه دُقاق الفحم من حُراقَةِ النار. أما دقَّات قلبه فمكتومة، لكنك تلحظها من خَفَقَان صدره حتى لكأن القلب يودّ أن يطفر منه. رجلٌ لا يقوَى على العيش داخل غرف باردة أو بها تكييف؛ لأنه أصلاً لا يملك دَمَاً ساخناً يجري في عروقه. لا نقود في جيبه، ولا سوار للوقت في معصم يده ليُدرك به ساعات اليوم ولا منازل القمر. ولا مذياع ولا شاشة تلفاز ولا مناظر خلابة تبهج ناظره. ماذا تتمنى يا حاج؟ رفع رأسه وقد بَانَ الزَّجَج في حاجبيه ثم قال: أن يأخذ الله أمانته. يا إلهي! يا لها من دعوة من صابرٍ تفسّر واقعاً لا يُحتمل.
تخيَّلت نفسي مثله. لا أمتلك عافية أنهض بها. ولا مالاً أكرِّم وجهي به عن سؤال الناس. لا أقرأ ولا أكتب لأتسلّى بكتاب أو مخطوط. ليس لديّ هاتفٌ أتحدث به مع أحد، ولا جوار أستأنس به. ولا أيّ وسيلة حديثة تساعدني على قتل وقتي المُعَاد يومياً سوى طبخ نفسي في مرق الذكرى. إنه أكثر من سجن بل أشدّ منه. فلا يحتمل الواحد منا أن يبقى في بيته ساعتين متواصلتين دون أن يفتح بريده الإلكتروني ويتصل بالعالَم كله، أو يُشاهد قناة تلفزيونية أو نشرة للأخبار، أو يُمسك كتاباً فيقرأ ما تيسّر منه، فكيف به إذا أمسى كمثل ذلك الكهل، لا ينقضي وقته إلاّ بتجرع ذات الأحزان، وذات المشاهد وبمثل ما انقضت به أيامه السالفة!
هنا، وبالمقدار الذي يهمني حال ذلك الرجل المسكين، فإنني صِرت أتفكر في ذاته أكثر. فما قضاه من سنين جاوزت التسعين عاماً أو أزيد من ذلك كانت جزءًا من مشهد دراماتيكي نشِطَ بناه بمعيّة آخرين مثلما نقوم به نحن في هذا الأوان. فإن كان سبَّاكاً فإن بيوتاً كثيرة أصلح عطبها. وإن كان نجاراً فقد أظهر فنَّه فيها وهكذا دواليك. إذاً، الموضوع يتعلَّق بواحد ممن كانوا أحد علامات ماضينا والذين شكَّلوه بمثل ما كان. وإذا كان الكثيرون اليوم يُكابدون من أجل اقتناء حاجيات الماضي السحيق من مقتنيات تراثية ونحاسية، وأشكال هندسية لتوفير أمان تاريخي لذواتهم، فما بالهم لا يعتنون بمن صنعها وأسال العرق من أجل إبرازها؟!
للأسف، تتأفَّف بعض العوائل اليوم وتمتعض حين يُلقِي القَدَر بأحد كُهُولهم بين أيديهم عاجزاً عن فِعل أيّ شيء، فترى التثاقل والتسويف سيّد تصرفاتهم. بل الأكثر، عندما تمرّ بإحدى المقابر، وترى الناس مُتجمِّعة بانتظار حمل جنازة، فتسأل: من الموافَى به حفرته لوقت حِمامِه؟ فتسمع ما يُهدّئ من روعك: لا لا... إنه رجلٌ مُسِن! بمعنى أن إيقاع موته أقلّ من أقرانه من الموتى الآخرين! نسوا أن هذا الكهل كان جزءًا من تشكّل حاضرهم، بل ومن تشكّل تاريخ بلدهم بأسره. هذه مشكلة أخلاقية كامنة في سلوك البشر قبل أن تكون غير ذلك، رغم أننا في مهد الأديان الإبراهيمية الموحِّدة التي دَعَت إلى التراحم وعدم القسوة.
خلاصة القول، إن الرعاية الخاصة لهؤلاء السادة والأحبة واجبة، وإن تكريمهم مسؤولية، وما عدا ذلك لؤم
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3239 - الأربعاء 20 يوليو 2011م الموافق 18 شعبان 1432هـ
شكراً لك
مقال في الصميم يا أبو عبدالله
يقول المثل
وردة واحدة لإنسان على قيد الحياة أفضل من باقة كاملة على قبره
شكرا لك اخي بوحميد
اذا لم اقرأ لك كل صباح فان الكهولة لدي تتمني مثلما تمني صاحبنا وجدنا الذي اخذه العتو فى زمن الظلامات شكرا لك اخي الفاضل على مواساتي يوميا لكل مقال منك لا تتصوره بل هو كذلك معكوسا بحالي ومسقطا لمعاناتى فشكرا شكرا لك بوحميد وجزاك الله خير الجزاء