إن ثمة تعالقاً بين قول المجاطي في هذه القصيدة: «أنا بالثورَة عانَقْتُ السّماء»، وبين قوله في إحدى قصائده الأخرى:
«غيْر أنّي تخَيَّرْت صَفّ الخَوارِج.
هَذي هُتافاتنا تمْلأ الرَّحْبَ» .
وكِلا النصيْن يدل على اختيار الشاعر نهْج الثورة والانتفاض، وفيهما إشارةٌ إلى أن تحقيق المُنى والغايات لا يتم بالخمول والكسل والتكلان، بل بالسعْي والثورة. وهنا، يمكن أن نتحسَّس خيْطاً رفيعاً دقيقاً بين كلام المجاطي وبيت شوقي (1868-1932م): (من الوافر التام)
وما نَيْلُ المَطالِب بالتمَنّي ولكنْ تُؤْخَـذُ الدُّنْيَا غِلابَا
- يُحيلنا قول المجاطي: «رأيْتُهُم مَرّوا بلا عَمَائِم» ضمْنياً إلى قولة قديمة لأحد العرب، نصُّها: «العَمائمُ تِيجانُ العَرَبِ»؛ وهي مُثبََتة في الجزء الثاني من كتاب أبي عثمان الجاحظ (ت255هـ) المعروف «البيان والتبيُّن». وإذا كانت العمائم تيجان العرب ورمزاً إلى رِفْعتهم وقوتهم، فإن سقوطها أو زوالها - كما في قول المجاطي - دليلٌ على سقوط العرب وانهزامهم.
- ينظُر قول المجاطي: «قِيل أفْرَخَت حِرْبَاء في وُجُوهِهم. وقيل باضَتْ قُبََّرَة» إلى قول طرَفة بن العَبْد؛ الشاعر الجاهلي المعروف:
يا لكِ مِنْ قبَّرَةٍ بمَعْمَر
خَلا لكِ الجَوُّ، فبِيضِي واصْفِري
قد رُفِع الفَخُّ، فماذا تحْذَري
ونَقّري ما شِئتِ أنْ تُنَقّـري
قدْ ذَهَبَ الصَّيّادُ عَنكِ، فابْشِري
لابدَّ يوماً أن تُصَادِي، فاصْبِري
وفي كلام المجاطي إشارة إلى هَوان الفرسان وذلهم وانكسار شوْكتهم، حتى إن عصفوراً معروفاً بشدّة الذعْر والخوف (القبّرة) يستطيع أن يستقرّ على رؤوسهم، ويعشّش ويَبيض. وكذلك الشأن بالنسبة إلى الحرباء التي تستطيع أن تفرخ في وجوههم دون أدنى شعور بالفَزَع.
- لاشك في أن المجاطي قد استحضر في قوله: «كيْف فاضَ الماءُ في التّنُّور» النص القرآني. إن فيضان الماء في التنور إشارة من الله جل علاه إلى نبيه نوح عليه السلام بدُنوّ الطوفان؛ لكي يركب الفُلك، وينجو بنفسه وبالمؤمنين. وقد وردت في القرآن الكريم مرتين. يقول تعالى في سورة «هود»: حتّى إذا جاءَ أمْرُنا، وفارَ التنّور قُلنا: احْمِل فيها من كُلّ زَوْجَيْن اثنيْن... . ويقول في سورة «المؤمنون»: فأوْحَيْنا إليهِ أنِ اصْنَعِ الفُلْكَ بأعْيُنِنا ووَحْينَا. فإذا جاءَ أمْرُنا، وفارَ التنّور، فاسْلُكْ فيها مِنْ كل زَوْجَيْن اثنيْنِ. وقد أشار المجاطي في كلامه إلى فيضان الماء في التنور - على غرار ما جاء في القرآن - ليدلّنا على أن عودة أولئك الفرسان المتبَجِّحين كانت وَبالاً على مجتمعهم كالطوفان تماماً.
نلاحظ أن أغلب النصوص الغائبة التي وظفها المجاطي مقبوسٌ من التراث العربي، وأنها موظَّفة بدقة وببراعة كبيرتين، وأن الشاعر رامَ من توظيفها تحقيق مقاصد معينة. وهكذا، يتبدّى لنا أن اللمحات التراثية في قصيدة المجاطي «ليست زينة ولا مقايسة» ، وإنما هي مسخَّرة لخدمة الدلالة العامة للنص، وإغنائها بمكوِّن اسْتشهادي عميقِ الصلة بفحوى النص ومَغْزاه. إن هذه اللمحات وردت متساوقة مع سياق القصيدة؛ بحيث لا تبدو نَشازاً، لأن الشاعر استطاع - بحِذقه وموهبته - أن يطوِّعها ويكيِّفَها مع السياق.
إن حضور النصوص الغائبة في القصيدة دليلٌ على حضور البُعْد الثقافي من وجهة، وعلى وجود تفاعل بين القديم والحديث من وجهة ثانية. وتسْهم هذه النصوص في تبْديد غموض القصيدة، وفكّ طلاسِمها في أحايينَ كثيرةٍ. يقول إدريس اليزامي عن النصوص الغائبة: «إنها المراجع الثقافية التي تتغذى منها قصائد الشاعر، وبالتالي فهي إضاءات - حقّاً - لظلام الغموض الذي يكتنف بعض النصوص».
ولايمكن للقارئ أن يفهم نصّاً تكتنفه نصوص غائبة (مثل نص المجاطي الذي ندْرُسُ التناص فيه) فهْماً سليماً ما لم يكن مزوَّداً بثقافة واسعة ومتنوعة. وفي هذا المضمار، يقول محمد مفتاح إن التناص «ظاهرة لغوية معقدة تسْتعْصي على الضَّبْط والتقنين، إذ يُعتمَد في تمييزها على ثقافة المتلقي، وسعة معرفته وقدرته على الترجيح».
الهوامش:
1 - حسني المختار: استراتيجية التناصّ: قراءة في قصيدة «سبو سيد العُشّاق» للشاعر محمد علي الرباوي، مجلة «المشكاة»، وجدة، ع.40، 2002، ص11.
2 - محمد مفتاح: تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناصّ)، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط.2، 1986، ص134.
3 - سعيد يقطين: الرواية والتراث السردي - من أجل وعْي جديدٍ بالتراث، المركز الثقافي العربي، ط.1، 1992، ص10.
4 - محي الدين صبحي: حداثة التراث وتراث الحداثة في شعـر أحمد المجاطي، دراسة منشورة ضمن الطبعة الثانية لديوان المجاطي، 2001، ص 138.
5 - لمزيدٍ من التفاصيل فيما يخصّ هذا المَثل، يمكن الرجوع إلى الجزء الأول من كتاب «مجمع الأمثال» للميداني المتوفى سنة 518 للهجرة.
6 - حسن الأمراني: أحمد المجاطي والارتباط الحضاري، مجلة «آفاق»، اتحاد كتاب المغرب، ع.58، ص59.
7 - سورة يوسف، الآية 36، رواية الإمام ورش.
8 - أحمد المجاطي: الفروسية، دار النشر والتوزيع المدارس، البيضاء، ط.2، 2001، ص 42.
9 - طرفة بن العبد: ديوانه، تح. وتق: مهدي محمد ناصر الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط.1، 1987، ص52.
10 - معمر: مكان نَصَبَ فيه الشاعرُ فخّاً لصيْد الطيور، لكنه لم يفلحْ. لأن قبَّرَة واحدةً لم تحطَّ عليه، ولما سحَب فخّه، حطّتِ الطيورُ على الحَبِّ الذي وُضع عند الفخّ. فقال عندها الشاعرُ هذه الأبيات.
11 - سورة هود، الآية 40.
12 - سورة «المؤمنون»، الآية 27.
13 - محي الدين صبي: حداثة التـراث وتراث الحداثة في شعر أحمد المجاطي، ص146.
14 - إدريس اليزامي: تنْويعاتٌ فنية في ديوان «أول الغيث» لمحمد علي الرباوي، المشكاة، ع.40، 2002، ص33.
15 - محمد مفتاح: تحليل الخطاب الشعري، ص131
إقرأ أيضا لـ "فريد أمعضشـو"العدد 3237 - الإثنين 18 يوليو 2011م الموافق 16 شعبان 1432هـ