إن «التناص» مصطلح ذو أصول غربية، تُرْجم بهذا اللفظ ليكون مقابِلاً للمصطلح الأجنبي (Intertextualité) المنحوت من كلمتين، هما: Inter/ داخل، وTextuel/ نصّي. ولهذا ذهب بعضُهم إلى ترجمته بتعبير «التداخُل النصي»؛ مثلما فعل محمد بنيس في أطروحته لنيل الدكتوراه «الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها» - الجزء الثالث خاصة -، وكان الباحث نفسُه قد استعمل في رسالته الجامعية «ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب: مقاربة بنيوية تكوينية»، مصطلحاً آخرَ لقي رواجاً واضحاً في إبّانه هو «النص الغائب». ويَستعمل محمد مفتاح مصطلح «الحِوارية» للتعبير عن مفهوم التناص، علاوة على استعماله مصطلحات أخرى. بيد أن الترجمة الرائجة الآن هي «التناص» على وزن «التفاعُل» الذي يدل على المشاركة بين اثنين فأكثر في صُنْع الحدث. يقول حسني المختار في تفضيله هذا المصطلح: «يبدو هذا الاستعمال أفضل من التداخل النصي لإيجازه وإيفائه بدلالة التفاعل المتوخّاة في قولنا (التداخل)» . وتعد الباحثة جوليا كريستيا (J. Kristeva) أهمَّ منظِّرة لمسألة التناص حديثاً على وجْه الإطلاق.
إن التناص ظاهرة نصية قديمة في تراثنا؛ إذ مارسها الشعراء العرب القدامى في إبداعاتهم، واحتفلت بها كتب البلاغة والنقد العربية القديمة تحت تسميّات عدة (الاقتباس - التضمين - السرقة - الأخْذ - الاستِمْداد - الاستعارة - الاسْتشهاد...)، وانتبه النقاد الأُول إلى ضرورتها وأهميتها. وفي الديار الغربية، التفت عديد من الدارسين في الوقت الحاضر إلى هذه الظاهرة، وأكّدوا أهميتها؛ حيث يقول جينّي (L. Jenney) في مقالٍ له: «خارج التناص يغدو العمل الأدبي ببساطة غير قابل للإدراك».
ويمكن أن نعرّف التناص بأنه ذلك التعالق بين نص ونص آخر أو نصوص أخرى، سابقة عليه أو معاصرة له، أدبية كانت أو غير أدبية. وقد يكون هذا التعالق النصي على صعيد شعر شاعر بعينه، وقد يكون بين شاعر وآخر. ويجب أن تكون لهذا التعالق مقصدية معينة. وهكذا، فالتناصُّ «وسيلة تواصل» ، تكشف عن التفاعل (أو التأثر والتأثير) الحاصل بين نص لاحق/ متعلِّق ونص سابق/ متعلَّق به. وهي ظاهرة عامة ومعروفة في اللغات والثقافات المختلفة. كما أنها لازمة وضرورية؛ حيث يقول سعيد يقطين: «أيّ نص كيفما كان جنسه أو نوعه لا يمكنه إلا أن يدخل في علاقات مّا وعلى مستوى مّا مع النصوص السابقة أو المعاصرة له» .
لقد وظف الشاعر المغربي الحديث، كغيره من شعراء الوطن العربي، التناصَّ بكثافة في نصوصه؛ مثلما نلفي في عموم أشعار أحمد المعداوي/ المجاطي؛ «شاعر المغرب الكبير» الذي رحل عن دُنيانا سنة 1995. وسنكتفي في هذا المقال بإبراز تجليات ذلك التناص، وكذا أبْعاده المختلفة، في إحدى قصائده المعروفة، وأقصد نصَّه الموسوم بـ «عودة المرجفين» الذي استلهم فيه زَخَماً من النصوص الغائبة، ووظفها وفق أحْدث الطرق التناصية، وببراعة منقطعة النظير. وهذه النصوص، في معظمها، مستوْحاة من التراث العربي والإسلامي. يقول محيي الدين صبحي عن كيفية تعامل المجاطي مع التراث: «إن استعمال المجاطي للتراث أعمق غوْراً وأبْعد مرمى... فقد ابتكر طريقة تجعل من قاموسه في معظمه ألفاظا تراثية، توحي بظِلالٍ لمضامينَ تراثيةٍ، وإنْ كانت تستمر في إعطاء معناها المعاصر». وفيما يأتي رصْدٌ لمواطنِ التناص في نص المجاطي المَعْنيِّ:
- يبدو من خلال قراءة قصيدة المجاطي كلها، وتفهُّم سياقها، وكشْف محتواها أن عنوانها يشير إلى المَثل العربي الشهير «رَجَعَ بخُفَّيْ حُنَيْْنٍ»، والذي يُضرب في مقام اليأس والإخفاق والخَيْبة. والعنوان يدل كذلك على الفشل والاضطراب وانصرام زمن الشموخ والأمل ليحلّ محلَّه زمن الأفول واليأس. ومما يزكّي هذا التخْريج وُرودُ مفهوم العودة في كلٍّ منهما؛ إذ ورد في عنوان النص لفظ «عودة»، وجاء في صيغة المثل المذكور الفعل «رجع» الذي يفيد معنى العودة والقفُول.
- ويبدو أن في قول المجاطي: «أحِسّ تمَرُّدَ الأمْواتِ فيه، نَكْهَة البَعْث، التِئام الجُرْح في الغُصَص الدَّفينَة» تلميحاً إلى أسطورة «طائر الفينيق» الذي كان يتحول إلى رماد، ثم يقوم - بعد مدة زمنية - من رماده حيّاً. وقد استثمر هذه الأسطورة القديمة عددٌ من الشعراء العرب المعاصرين، منهم حسن الأمراني؛ تلميذ المجاطي، الذي استغل هذه الأسطورة في مختلَف قصائد ديوانه «سآتيك بالسيف والأقحوان»، الصادر العام 1996، عن دار الرسالة البيروتية. وفي هذا الصدد، يحْسُن بنا أن نذكر أن الأمراني قد أوْضح في مقالٍ له أن المجاطي استغل الأسطورة مرة واحدة، وذلك في قصيدته «مدينتي»؛ وهذه القصيدة لم ترِدْ في ديوان «الفروسية» بطبعتيْه الأولى (1987) والثانية (2001)، وإنما وردت في ديوان المجاطي الذي نشرته مجلة «المشكاة» العام 1996. ويعلل الأمراني، في المقال نفسِه، غياب الأسطورة في قصائد المجاطي بقوله: «لعل السّر وراء ذلك - فيما أتصوَّر- أن المجاطي كان في فنّه وفي فكْره أشدّ التصاقاً بكل مكوّناتنا الحضارية، ولا يشرئبُّ بعُنقه إلى ما وراء ذلك، إلا بالقدْر الذي يحس فيه بأن ذلك لا يمحو كيانه الحضاري ولا يشوّش صفاء رؤيته الشعرية». إن قراءة فاحصة لأشعار المجاطي تبرز أنه قد وظف الأسطورة أكثر من مرة. فبالإضافة إلى الأسطورة التي أشار إليها حسن الأمراني، يمكن أن نقف على أسطورتين أخْريَيْن، على الأقلّ، في شعر المجاطي؛ إحداهما ذكرْناها آنفاً (أسطورة طائر الفينيق)، والأخرى وظفها المجاطي في قصيدته «أكزوديس في الدار البيضاء»؛ وهي أسطورة أكزوديس المعروفة.
- وقد يكون الشاعر متأثراً في قوله: «كانوا إذا ناءَتْ جِراحُهُم، تحَلّق كاسِرَاتُ الطّيْر فوْقَ وُجًُوهِهم» بقوله تعالى في سورة «يوسف» المكّية: ودَخَلَ معه السِّجْنَ فَتيَانِ. قال أحدُهُما إنِّي أرَانِيَ أعْصِرُ خَمْراً، وقال الآخَرُ إني أرَانِيَ أحْمِلُ فوْق رَأسِي خُبْزاً تأكُل الطّيْر مِنه. نَبِّئنا بتأويلِه. إنّا نَراكَ مِِنَ المُحْسِنينَ
إقرأ أيضا لـ "فريد أمعضشـو"العدد 3236 - الأحد 17 يوليو 2011م الموافق 15 شعبان 1432هـ