أنا ابنة الثمانينيات من القرن الماضي، لم أكُ أتوقع سرعة هذا التحوّل في القناعات والقيم في الوسط الذي أنتمي إليه (الوسط الثقافي).
خلال أكثر من عقد من الزمن فقط حدثت تحولات مبهرة ومقنعة، وفي المقابل حدثت تراجعات تكشف عن الخذلان في القناعات والقيم.
ثمة من لم يشعر بحرج المراجعة. كان بعضهم يملك من الشجاعة ما يكفي لأن يجهر بلحظة جبْنه وخذلانه لكثير مما اعتقد أنها ثوابت نمت وكبرت بنمو وعيه وكبر بصيرته؛ فيما بعض لم يرف له جفن وهو يراكم تراجعاته ويشهر خذلانه، ويبحث عن منبر لإشاعة ذلك الخذلان والترويج له، وفوق هذا وذاك، لم يتردد لحظة في الذهاب بحثاً عن منبر تشهير بالذين لم يكونوا على وفاق وتواؤم مع فرحه بانكشافه وذبحة المواقف لديه!
أنا ابنة الثمانينيات من القرن الماضي، أرقب اتساع رقعة الفراغ. الفراغ في المواقف والقيم، وخصوصاً في اللحظات التي تتطلب تسجيل المواقف، والتدليل على تبنيها حتى النفس الأخير من الحياة قبل النص.
أنا ابنة الثمانينيات، أشهد على «الكبار» الذين ظلوا يرْتعون في أمجاد ما أسسوه وأنجزوه، وكان مطلوباً منّا في وعيهم و»أبوَّتهم» أن نذكّر أنفسنا بريادتهم وإنجازهم - في طقس ضروري بالنسبة إليهم - مع كل وجبة يومية، وفي كل صلاة لا نؤديها على عجَل؛ حتى ونحن في همّنا اليومي، في زيارة طارئة لطبيب العائلة؛ أو مراسم فقْد أحبة؛ أو في الشحيح من فسحة الحياة، مشياً في الأسواق، وارتياداً لدور السينما، وأفراح طارئة نكون جزءاً من تفاصيلها، وعلينا أن نقتطع وقتاً من كل ذلك لكي لا نرتكب إثم نسيان تأسيسهم وإنجازهم «النصي»، وأن نردّد خمساً بعد كل صلاة: إنهم كبار!
أنا ابنة الثمانينيات، وبصفتي من المحسوبين على كتابة الشعر بالدرجة الأولى، وبصفتي عضواً في هذا الحراك الذي لم يعد فيه شائعة حراك، وقفت بوعيي الخاص، من دون استسلام وذهاب مبرمج إلى النظريات التي تحدّد مدى صلاحية نصنا ووعينا، على أن الشعر - وهو حرفتي المحبّبة في سعيي لفهم ما حولي - بحث عن الإدراك العميق. وليس أي إدراك. والشاعر الذي ينتظر النص ثق أنه عاطل عن حقيقة المحاولة. النص لا يأتي وإنما يُؤتى. يُؤتى بمفاتيح ذلك الإدراك متسلحاً بما يعينه على المحاولة. لا أحد يحاول مجرداً من أدوات. كل محاولة تتطلب أدوات. ومن ضمن تلك الأدوات ألا يتماهى الشاعر ... الفنان .. الموسيقي... مع شرط النص وفضائه على حساب الحياة، بعيداً عن الشرط وضمن فضائها المفتوح على المدى. ومثلما يذهب إلى النص بشغف تخريب الإدراك السائد والمسبق، انتظاراً لاتضاح الخيط الأبيض من الخيط الأسود، عليه أن يخرب الخيارات التي تُمرّر إليه في المراحل والتحوّلات الحرجة التي لا تقبل القسمة على انتظار أو تحفظ، وهي تحدد فضاءه ومداه. بهذا فقط تكون كبيراً.
أنا ابنة الثمانينيات، لا أبحث عن ملاذي الخاص، بعيداً عن ملاذات الجماعة البشرية التي أنتمي إليها؛ ليس في حيزي الذي أتحرك فيه؛ بل أينما كانت. طمأنينتي تنبع من طمأنينة المجموع البشري عموماً. لست قارّة لأتعالى على وجود كيانات في دول لا تُرى على الخريطة. ولو قيّض لي أن أكون قارّة سأظل حريصة على أن أبحث عن الألْفة والتجاور الدافئ والمسافة غير المرهقة التي تصلني ببشر تلك الخريطة.
وأنا ابنة الثمانينيات، قبل أن أدخل في هذه الجلبة والوسط الذي لم يكن في يوم من الأيام بريئاً حتى في تعامله مع الأوفياء لشروطه وخياراته في بداياتهم الساذجة، كنت أدرك أن معنى الإنسان الحقيقي والقادر على حفر حضوره، من دون أن يكون «كبيراً» بالمعنى المجازي والمزاجي في الوقت نفسه، يبدأ بالانتصار والانحياز لنص الحياة، وحق بشر تلك الحياة في أن يخلقوا شرطهم وقدرتهم على التعايش مع الحياة في طبيعتها ومواجهتها، حين تشذ مصادرة واستلاباً لحقهم في ذلك؛ وليس في التأسيس والإنجاز النصي.
يظل الإنسان هو النص الجدير بالسهر عليه قبل السهر على النص
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 3236 - الأحد 17 يوليو 2011م الموافق 15 شعبان 1432هـ
جميل
جميل جدا يا سوسن. أنا اتابعك مذ انتقلت للوسط، واتابع النضج أيضا. مثلك بدأت صحفية وشاعرة. وكتبت العديد من المقالات ، ولم أجد أكثر نضجا من الأديب الصحفي (ليس غرورا) وثقي ان ابن الثمانينيات قد يكون انضج من ابن الخمسينيات من المؤسسين اللذين عنيتيهم. وسابقا كنت أدهش من هذا الأمرأ.مقالك ذكرني بالمقطع الشعري من ديوان طقوس إمرأة:
الكبار يبقون كبارا
أو هكذا يعتقدون
الصغار ينمون ويكبرون في غفلة الكبار وتفافلهم