في المقال السابق قلنا إن الطائفية في البحرين باتت اليوم من القضايا والمشكلات الكبرى، مثلها مثل كل الدول التي تتميز بتعدد وتنوع نسيجها الاجتماعي والديني والمذهبي، وقلنا إن المشكلة تبدأ عندما يتم النفخ في الخصوصيات المذهبية لحسابات سياسية. وأكدنا مسئولية بعض القوى السياسية والمجتمعية عن هذا الوضع، كما تطرقنا إلى دور ومسئولية «الدولة» سواء كان في الظروف الطبيعية أو خلال الأزمات، والخيارات التي يمكن أن تلجأ إليها للمحافظة على أمنها واستقرارها، عبر احتضان كل مكونات شعبها وإشاعة الثقة والاطمئنان عند الجميع، أو التوجه إلى الخيار الذي يضرب اللحمة الوطنية ويشق الصف لحسابات سياسية قاصرة، بالإضافة إلى ما تملكه الدولة من قوة القانون الذي تستطيع من خلاله ترتيب العلاقات السياسية للمجموعات الأهلية.
وتوقفنا عند مظاهر مأسسة هذه الطائفية من خلال السماح بتأسيس جمعيات سياسية على أساس ديني أو مذهبي، وإصدار التشريعات والقوانين التي ترسخ هذا التوجه الذي يحول التنوع السياسي والمذهبي من مصدر غنى روحي وثقافي إلى «كابوس» ومصدر خطر وهو ما يجعل هذه القوى شريكاً أساسياً في خلق الأزمات المتكررة في البلاد، بسبب مقدرة هذه القوى على توليد هذه الأزمات بحكم تركيبتها التنظيمية وبرامجها السياسية وأنشطتها الميدانية.
وسوف لن نذهب بعيداً لتقديم الأدلة على صحة ما نقوله بخصوص مسئولية هذه القوى وبعض المجاميع والأفراد المحسوبين عليها، فقط لنلتقط حادثة قريبة جداً ونحاول معرفة حجم التفكير الكارثي الذي يوجه سلوك هذه القوى. فقبل أيام تم نشر وثيقة على موقع «الجزيرة نت» الالكتروني، قيل عنها إنها من إعداد الجهاز المركزي للإحصاء، وقد تحدثت هذه الوثيقة عن نسب الشيعة والسنة في التركيبة السكانية الحالية في البحرين.
إن ما أردنا الإشارة إليه هو تلك المعارك التي سوف يتم افتعالها على خلفية تلك الوثيقة المزعومة، والتي ستضاف فصولها إلى حرب «داحس والغبراء» بين القوى الطائفية ومن يمثلونها على هذه الضفة أو تلك، في الساحة البحرينية، والتي ستلقي بظلالها حتماً على الواقع المأزوم أصلاً. وسوف نرى كيف ستطل علينا بعض الوجوه لتمارس دورها الطبيعي في النفخ والشحن، وسنرى تصدر بعض الأقلام المسمومة» التي تصب الزيت على النار جاعلة من هذه الوثيقة فرصة للبروز على حساب مصلحة الوطن، مع إدراكنا التام بأن هذه الوثيقة ليست لها أية قيمة من الناحية الفعلية، والأهم أنها لا قيمة لها من الناحية الوطنية والمبدئية، فالشعب البحريني لم يكن يوماً معنياً بهذه الألاعيب التي تستهدف إشغاله بحكايات ممجوجة حول الأكثرية أو الأقلية، لأنه باختصار يعرف الدوافع والنوايا التي تحرك أصحاب هذه «النظريات» والأطروحات الطائفية، والتي ليس فيها ما يحمل الخير للوطن أو للمواطنين على مختلف انتماءاتهم المذهبية، لذلك لم تكن يوماً جزءاً من تفكيره أو اهتمامه، وهذا هو السر وراء تسريب هذه الوثيقة في هذه الظروف بالذات، التي تشهد احتقاناً اجتماعياً وسياسياً، الأمر الذي يزيد من فرص إحداث اختراقات جديدة، في المجتمع البحريني وتدفع به إلى التأزم مجدداً عبر هذه الوثيقة، سيئة الصيت، كما يتوقع ويأمل الطرف الذي أقدم على هذا العمل التخريبي المستهجن.
فنحن نعتقد اعتقاداً جازماً أن شعبنا بمختلف مكوناته السياسية والاجتماعية، يريد مغادرة المرحلة الراهنة وأجواءها المقلقة بأسرع وقت، وهو يتطلع إلى تأسيس مرحلة جديدة تقوم على الشراكة والتعايش الأخوي السلمي وهو ما يلقي على كل الأطراف المعنية بالحوار ومن بينها الدولة، مسئولية مضاعفة وتبني الخيارات التي تحفظ الوطن، وتحافظ على مكتسباته السياسية والديمقراطية، بل وتطويرها بما يساعد على إخراج البلد من أزمته.
ولعل أحد أهم الخيارات المطروحة اليوم على الجميع، هو إعادة بناء مشروع وطني يستوعب كل الملفات والقضايا التي كانت وراء الأزمات المتكررة في البلاد، مشروع يقوم على هدف توحيد الشعب وإجراء مصالحة حقيقية بين مكوناته بعد ما تعرض له من انقسامات حادة وخصومات عميقة. مشروع يرمي إلى إتاحة الفرص المتساوية لكل المواطنين في مجالات الحرية والعدالة، وحفظ الحقوق دون امتياز أو تمييز لطرف على حساب طرف آخر. مشروع يقوم على قاعدة الديمقراطية والمواطنة والتي تعني تعزيز دولة القانون والمؤسسات ونظام المساءلة ودفع عملية التنمية الشاملة المترابطة الجوانب من سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.
وفي تقديرنا أن هذا المشروع الوطني يجب أن يقوم على مجموعة أسس مبدئية وثابتة منها:
• التمسك بالوحدة الوطنية في مواجهة كل محاولات التفتيت، واعتماد الديمقراطية منهاجاً لإدارة الاختلاف والمصالح واعتماد التعددية كقاعدة للعمل، والحوار سبيلاً لإدارة الصراعات السياسية.
• تأمين حق كل القوى السياسية والاجتماعية مباشرة العمل السياسي في ظل المشروعية القانونية، والنظرة الوطنية بغض النظر عن الانتماء السياسي أو المذهبي.
• العمل على إشاعة ثقافة التعايش المشترك وقبول الآخر، والتسامح بين مكونات الشعب، وتعزيز فكرة الحوار الوطني الدائم، وليس المرتبط بأوقات الأزمات فقط.
• التأكيد على بناء دولة القانون والمؤسسات، وفصل السلطات، ووجود برلمان ذي صلاحيات تشريعية ورقابية حقيقية، وحكومة تمثل الإرادة الشعبية، والعمل على سن التشريعات التي تحقق هذه التطلعات، وتعمل على ترسيخ مبدأ المواطنة وتراعي مبادئ الكفاءة والنزاهة والانتماء للوطن، والمساواة في الحقوق والواجبات، وخصوصاً حق الحصول على السكن والصحة والعمل في كافة وزارات وأجهزة الدولة دون تمييز.
• رفض استخدام القوة أو اللجوء إلى الخيارات الأمنية أو أساليب الفوضى والعنف في حل الخلافات والتناقضات التي تنشأ بين الأطراف السياسية، التي يجب أن تحل وفق الفتاوى الدستورية والديمقراطية.
• محاربة كل أشكال الفساد المالي والإداري ودعم الهيئات الرقابية المتخصصة في ذلك، وتفعيل الآليات والتشريعات التي تهدف إلى حماية المال العام من التعدي عليه ومعاقبة كل المتجاوزين، فقد ثبت بما لا يدع أي مجال للشك أن الفساد إلى جانب الاستبداد والتمييز يمثل الثالوث الذي لا يمكن لأي بلد يفكر بالتطور والنهوض دون القضاء عليه، فهو أصل الداء ووراء كل بلاء.
هذا هو الفعل التاريخي الذي علينا اليوم القيام به للتجاوب مع طموحات شعبنا، فالشعب يريد نيل حقوقه مع حفظ وحدة بلده واستقراره وسيادته؛ ويريد حريته وكرامته وتأمين مستقبل أجياله؛ ويريد تحصين قوة ومناعة مجتمعه من أي اختراقات خارجية تستهدف وجوده وهويته الوطنية والقومية. وهو يرى أن الطائفية المستشرية في البلاد اليوم تمثل أحد أخطر أدوات هذه الاختراقات.
باختصار شديد، الشعب يريد إسقاط الطائفية وكل الطائفيين
إقرأ أيضا لـ "محمود القصاب"العدد 3234 - الجمعة 15 يوليو 2011م الموافق 13 شعبان 1432هـ
متى نتعلم من تجاربنا و تجارب الآخرين؟
ينظر إلى أوروبا, بالتحديد أوروبا الغربية, على إنها مثال للتحرر الفكري من سطوة الرهبان و الإنتقال من "فكر" العصور الوسطى إلى نهج الحداثة و التغيير. المثير في الموضوع أن من بين بلدان أوروبا الغربية, المتقدمة فكريا و حداثيا", تبقى ايرلندا في حال عدم اسقرار و تخلف نسبي بسبب, و ياللمفاجأة, حرب أهلية قطبيها البروستانت و الكاثوليك. ها هم أبناء البلد الواحد و الدين الواحد يمزقون بعضهم, تجرهم النزعة الدينية المتطرفة و من يستغلها.