تزامن الأحداث يمنحها فرادة في التوقيت. قيل إبَّان عقد مؤتمر مدريد للسلام في الـ 30 من أكتوبر من العام 1991 بأن توقيته كان متزامناً مع ذات الشهر الذي دَخَلَ فيه الملك الأراغوني خايمي الأول إلى الأندلس قبل 753 عاماً، وبالتالي سُلِّمت الأندلس والقدس في ذات الأوان بالتزامن! ثم قيل بأن سقوط الرئيس المصري السابق حسني مبارك في 11 فبراير/ شباط جاء متزامناً مع يوم انتصار الثورة الإيرانية الذي كان يُخاصمها بشدة، وأيضاً مع ذكرى انهيار اتحاد كالمار الشهير بين الممالك الاسكندنافية الثلاث الدنمارك، النرويج والسويد بعد نزاعٍ مرير مع الملكة مارغريت الأولى. هذه هي الصدف ومذاقها حين يتمّ تذكرها بشيء من العجب والاستغراب.
لكن الحقيقة الأخرى هي أن التزامن ليس محصوراً في الأحداث والأزمنة وتوقيتاتها، بل ينسحب أيضاً إلى الكتابات والأبحاث والدراسات. فكم من دراسات كُتِبَت في زمنٍ سحيق، ثم أعيدت طباعتها عندما وجد الناس أنها تحاكي مشاكلهم. فالتاريخ يُعيد نفسه وكأنه ساقية الماء تعلو ثم تهبط. كَتَب نيكولا ميكافيللي كتابه الشهير المسمّى بـ «الأمير» في العام 1513م فأعيد طبعه في هذا العصر. وكَتَبَ جاك روسو «العقد الاجتماعي» في العام 1762م فأعيد طبعه في حاضرنا. ومن بين هذه الكتب المُعادَة أيضاً كتاب «في الثورة» للفيلسوفة الأميركية من أصل ألماني حنَّة أرِنْدت.
هذه الباحثة اليهودية كتبت سِفرَها قبل نصف قرن تقريباً. كتبته بعد ثلاثين عاماً من هروبها إلى فرنسا ومنها إلى الولايات المتحدة بعد أن دمَّر النازيون عقدهم الاجتماعي بتصنيفهم الناس والأعراق والطوائف طبقاً لتفسيرات شوفينية، فكان نصيب اليهود هولوكوستاً دموياً. ولأننا نعيش في زمنٍ عربي بدا أنه مختلف جداً في شكله السياسي والاجتماعي بعد أن اشتعلت تونس ومصر وليبيا والجزائر والمغرب واليمن وسوريا والأردن وغيرها من البلاد العربية، فقد آثرتُ إعادة قراءة لكتابها القيِّم «في الثورة» الذي أعادت طباعته المنظمة العربية للترجمة في العام 2008 ووزَّعه مركز دراسات الوحدة العربية. وقد حَظِيَ الكتاب بترجمة مميَّزة من الباحث القدير عطا عبدالوهاب، أبدأه بحلقة أولى أوّليَّة.
الكتاب يضم مقدمة مهمّة حول الحرب والثورة وارتباطهما بقضية الحرية التي وصفتها الكاتبة بأنها تشكّل وجود السياسة، تليها ستة فصول، الأول يتحدث عن معنى الثورة، والفصل الثاني عن المسألة الاجتماعية، والفصل الثالث عن السعي وراء السعادة. أما الفصل الرابع فقد أفردته الباحثة لتناول الأساس الأول وهو تكوين الحريّة، في حين خصَّصت الفصل الخامس للحديث عن التأسيس والنظام العالمي الجديد. أما الفصل السادس والأخير فتناولت فيه الكاتبة موضوع التقليد الثوري، وكنزه المفقود، وفي نهاية الكتاب ثبت تعريفي.
تستهِلُّ حنَّة أرِنْدت بحثها بالإشارة إلى تلازم الحرب والثورة. ثم تشير إلى أن الأولَى هي أقدم الظواهر المدوَّنة، في حين أن الثانية لم تكن موجودة قِدَم الأولى. كما أن الحروب لم تكن مرتبطة بموضوع تحقيق الحرية إلاّ في حالات نادرة، وإنما ارتباطها موصول بمبرر أن العلاقات السياسية في سياقها الاعتيادي لا تقع تحت رحمة العنف. وتشير إلى أنه وخلال الإرث اليوناني القديم كانت المدينة اليونانية تقوم على الإقناع وليس على الإكراه، فكانت أثينا تقنع المحكومين بالإعدام باحتساء السّم لتحقيق أمر مزدوج، وهو تطبيق القانون وفق مفهوم الإقناع المُجرَّد.
وفي أمر الحروب التي لم تكن لتشَن لا من أجل الحرية ولا أيّ شيء مرتبط بها، فقد قسَّم الرومان تلك الحروب إلى عادلة وأخرى غير عادلة. وكان ليفي يقول بأن «الحروب الضرورية هي الحروب العادلة». لكن المشكلة تكمن في مدى تفسير الضرورة المشار إليها. فالفتح أو التوسّع أو الدفاع عن المصالح المكتسبة أو الحفاظ على السلطة نظراً لظهور دول جديدة مُهدِّدة أو التأييد لتوازن قوى هي كلها مُبررات تقليدية لشن الحروب. وربما كانت الحرب العالمية الثانية فرصة ثمينة لإعادة النظر في مفهوم الحرب وقدرتها التدميرية المرتبطة أصلاً بموضوع التقدم التكنولوجي.
تشير حنَّة أرِنْدت إلى قضية أساسية في موضوع التضحية. فهي تفرق ما بين مخاطرة المرء بحياته من أجل حياة بلاده وحرية وطنه وخلود أمَّته، وما بين المخاطرة بمصير الجنس البشري. فشعار «أعطني الحرية أو أعطني الموت» هو شعار أجوف وسخيف كما أسمته إذا ما تمَّت مَقيَسَته بالوجه التدميري للحروب النووية، بل هي تضيف: أن شعار «الموت أفضل من العبودية» هو شعار ينتمي إلى العقيدة الباطلة. وللعلم فإن حنَّة أرِنْدت كانت تقول بهذه الأفكار نظراً لقرب زمان كتابها بما آلَ إليه العالَم وبالتحديد الأوروبي من تدمير بسبب الحرب العالمية الثانية، وأيضاً تأثرها بالعنف النازي الذي أجبرها على الهروب من موطنها ألمانيا.
في كلّ الأحوال، فإن موضوع الحرية هو موضوع مرتبط بقضية وجدانية تتحسّس قيمة إنسانية، يرى فيها البشر بأن قوة ما تتعدّى على أصول حصريّة في ملكيتها وخصوصيتها، وبالتالي فإن الاندفاعة نحو تخليصها من ذلك الاستيلاء العنفي يتطلب صراعاً من نوع آخر، ظهر في السياسة وبات ينعب بالثورة التي أصبحت العنوان الأبرز لموضوع الحريات. (وللحديث صلة).
بنقدٍ إلى الثوريين الذين أنزلوا مرتبة الحرية إلى حكم مُسبق من أحكام الطبقة الوسطى
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3234 - الجمعة 15 يوليو 2011م الموافق 13 شعبان 1432هـ
توضيح
زائر رقم 2 الان اصبحت واشنطن ملاك ومقربة .. لاحد من اللي خبرك يسمعك يزعل عليك
الهولوكست
بعد أن دمَّر النازيون عقدهم الاجتماعي بتصنيفهم الناس والأعراق والطوائف طبقاً لتفسيرات شوفينية، فكان نصيب اليهود هولوكوستاً دمويا
الاخ محمد المحترم, الرجاء قراءة سيرة عائلة روتشيلد حتى توضح الصورة حول الهولوكست. هذه العائلة اليهودية خططت وادارت بنجاح الحربين العلميتين و ما نتج عنهما و مازالت تتحكم في دول العالم. يكفى انها تملك بنك الاحتياطى الفيدرالى و ليست الحكومة الامريكية كما يتصور البعض. ولك تحياتى.
الحقيقة هي
موضوع الحرية هو موضوع مرتبط بقضية وجدانية تتحسّس قيمة إنسانية، يرى فيها البشر بأن قوة ما تتعدّى على أصول حصريّة في ملكيتها وخصوصيتها
الغرب ليس واشنطن
الثقافة الغربية غنية بالأبحاث الفلسفية والثرية بافكارها لدا يجب علينا عدم اعتبار الغرب هو واشنطن فقط
شكرا
مقاربة واقعية
شكرا للكاتب على هذه المقاربة والقراءة