فرضت التركيبة الفسيفسائية الاجتماعية واقعها على الثورات العربية ومسار حركتها، فاليوم نحن أمام عدة حركات غمرت بطوفانها الجارف المنطقة العربية، وتحولت سيولها لقوة هادرة تجرف بطريقها الأخضر واليابس، وتخضع لعملية توجيه وتحديد مسارات وفق التركيبة الفسيفسائية والجغرافية المحددة لآلية السير والمسير.
فتونس التي فاجأت العالم بثورتها ضد نظام (بن علي) تم ترشيد الثورة في قالب نفس النظام، مع تغيير رأس الهرم المدبر، وإطلاق العنان للمُنفذّ والمتنَفذين الذين لايزالون في المشهد وعلى رأس الأشهاد، يتولوا تدبير الأمور وترشيدها، وكادت تغرق تونس في مستنقع الفوضى الذي يُعبِر عن واقع ثقافة شعوبنا العربية التي أثبتت قطعاً أن ثقافة الحرية والديمقراطية، هي ثقافة تعبر عن الإيمان المطلق بتغيير الأشياء، دون تغيير الأعماق، ولذلك سرعان ما تتحول هذه الثقافة إلى فوضى عارمة تصيب كل المجتمع وشرائحه بما فيه فئته المثقفة.
وكأن ثقافة الحرية أو الحرية هي مرادفة لممارسة الفوضى، التي تجسدت في معالم ما بعد سقوط الرئيس المصري (مبارك) فتحولت الثورة المصرية لأداة عملانية للفوضى نتيجة الفهم الخاطئ لمفهوم (الحرية وملامحها) إضافة للتجانس التاريخي لفسيفساء المجتمع المصري المميز عن معظم مجتمعات المنطقة بتجانسه الاجتماعي، والثقافي، والحضاري، والتاريخي، وهو ما منح الثورة المصرية تلاحماً شعبياً ساهم في الحفاظ على هويتها الشعبية التي مثلت عامل الحسم، والنجاح.
ما استدركته بعض القوى لتوقد في صدور حفنة (متصهينة) أفكار وأفعال حاولت الالتفاف على التجانس المجتمعي المصري، وإشاعة الفوضى في الشارع المصري، وخلق قاعدة إفراغ للدولة المصرية من محيطها العربي، وخاصة القضية الفلسطينية، عودة بمصر إلى عهد (السادات) وفرض عزلة وانعزال عليها، عندما نجح وزير خارجتيها (نبيل العربي) بفترة وجيزة وبسيطة من بعث الروح بالدبلوماسية المصرية الخارجية، وإعادتها لمسارها الطبيعي. ما أثار حفيظة البعض من أعداء مصر، ودفعهم للتحرك على مسارات متوازية تستهدف وأد الثورة ومن ثم الانقضاض على مصر.
هذه الثقافة أو هذا الحراك الاجتماعي المتلون، لا يمكن الحكم عليه بإطلاق أو وسمه باتهامات مطلقة، بما أنه يحاكي متطلبات عادلة ومنطقية، وتعبير عن حالة القهر الممارس ضد حركة تطور المجتمعات، وأهمها التخلف الثقافي التي جئنا عليه في السياق. ورغم ذلك إلاّ أن هذه التحركات ليست بالبراء المطلق، أو الطهارة المطلقة، فهناك من يعبث بحركتها ويمارس دوره عن بُعد، ويغذي بها الانقسامات، والحقد.
الإدراك الواعي لمجمل الحوادث يقولب في الخلفية الأيديولوجية التي تستحكم في رصد ومتابعة الحالة المراد تشخيصها وتوصيفها، وهو ما ينطبق على تحركات الشعب السوري، وانحراف مسار التأييد لتلك الحوادث أو مناهضتها من حملة التثقيف، فمنهم من أيد كل ثورات الشعوب العربية وجاء بلحظة ليفرمل تحركه وتأييده ويختلق الأعذار والمبررات، ومنهم من سارع في التأييد بناء على الموقف السياسي والديني من النظام السوري الموروث من الرئيس (بشار) عن والده حافظ الأسد، في حين أن الحقيقة مازالت في طي المجهول ما بين المؤيد والمعارض، والتي تحاكي في مجموعها جملة العواطف التي نستند إليها في عملية التحقق التي حتماً تنحاز إلى جانب التاريخ، وتأخذ شطر الشعوب، الخاضعة منذ ما يقارب قرناً من الزمان تحت نير سطوة الفساد والقهر، والظلم، والجور، وقمع أجهزة الأمن، ما يعطي دلالات الحقوق للمجتمعات في التحرك، ولفظ حالة الارتعاش الأمني التي تعيش في بؤرتها ودائرتها، وهذا لا يبرر تجاهل المؤشرات والمعطيات التي تؤكد أن التدخلات الاستعمارية لها أيادٍ خفية في العملية ما يدعونا للتحفظ والتريث معاً في المساهمة في إنجاح أو إفشال هذه الحركة أو ذاك.
فالأمر أصبح ينحو صوب ما يسمى التقسيم المجتمعي ما بين (علوي - سني) و( مسيحي - مسلم) وهو استدراك واقعي لحركة التدخلات، وإحداث انقلابات، فالشعوب ثارت أو استثورت بعد مرحلة «البوعزيزي» لخلق مجتمع مدني متحرر من العصبية والطائفية والاستعمارية الفكرية، فعليه أي انحرافات ما هي سوى استكمال لما هو قديم بثوب جديد، أي أن عملية التغيير تتشابه إلى حد بعيد بعملية التفجير التي تتبع نهج التخوين.
إذن سورية اليوم بين سنديان الظلم الاجتماعي ومطرقة التفسخ الاجتماعي وكلاهما مكملان للصورة غير المستكملة في عملية رسم المنطقة بألوان تتناغم مع عاطفة تهيمن على عقلانية الرؤى، ومنطق التفكير، في غياب الوعي وثقافة الوعي التي تحولت لأغنيات ونكات بطلها الرئيس الليبي (معمر القذافي) الذي أشاطره ذاتياً صموده في وجه ما يسمى «الثوار» مع التحفظ الكامل على المسمى، بما أن الحركة المنبعثة في ليبيا حركة إنسان بوجه شيطان، وهو ما يقبع في التفاصيل، فأي فعل فاضح مآله عار، وفعل حركة الانبعاث الليبية الحالية هو فعل فاضح من شيطان رابض بهيئة إنسان، ما يتطلب الفعل للقضاء عليه، فقادة الانقلاب السوفياتي لم يمتلكوا القرار الحاسم في اللحظة التاريخية المناسبة، وعليه انفض الاتحاد السوفياتي وركبت الولايات المتحدة ظهر العالم وتدلي ساقيها دون حياء. هكذا الحال في ليبيا التي تحولت لتجربة على النمط العراقي مع اختلاف السيناريو، حلف استعماري يحلق في السماء، وشياطين وظيفية تمارس الفعل الفاضح على الأرض، وبكلا الأحوال سقوط ليبيا وتحويلها لساحة فعل ضد العرب والمسلمين، وضد الثروات.
ليس ما ينطبق على الجزء ينطبق على الكل، وليس بكل الأحوال هناك إمكانية للتنكر لعدالة التحركات، وحقوق الشعوب في العدالة الاجتماعية ونيل حريتها الاجتماعية والإنسانية، سواء على صعيدها القطري أو ألإقليمي أو الدولي، وهو ما يتطلب التمايز والممايزة، وتتبع تشعب الفلسفات والرؤى غير المتجانسة، والعامل الأهم هو التركيبة الفسيفسائية الاجتماعية، والوعي المتحرك ضمن هذه الفيسفساء، وما أعقد المشهد عند تناول الفسيفساء اليمنية والعبور في أمواجها التي تحتاج لعملية إنقاذ بارعة من غواصين بارعين يغوصون في أعماق المحيط اليمني، المتَّسم بالحكمة والعمق منذ بدء عملية الاستثوار الفعلية للشعب أو للشباب اليمني الذي قاوم كل عمليات الاندفاع نحو إغراق اليمن في معمان التشطير والتشظي، واستدراك واقع الحالة وخصوصيتها على رغم كل المحاولات في الالتفاف على مطالب الشباب وسحبهم لنقطة معينة في دائرة الصراع، إلاّ أن المحددات كانت مفهومة ومعلومة لدى هؤلاء الشباب على رغم عدم صدق الأهداف لفعاليات اللقاء المشترك الممثل لوجه سلطة الظل، والتضاد الفعلي للنظام.
فالمشهد اليمني مشهد قبلي بكل مفاهيمه وإحداثياته، يُعبر عن خصوصية مميزة في النسيج العربي، لاتزال قوانين خاصة تستحكم في منظومته، وعليه فهناك حالات وتدخلات ليست بريئة من المحيط الإقليمي والدولي حاولت وتحاول إغراق الساحة اليمنية بوحل الاقتتال، ورغم نجاح بعض عوامل الاجتذاب في الفعل إلاّ أن رد الفعل مساوِ له في المسار والمقدار، واستدركت جموع الفيسفساء اليمنية أن انحراف المسار يعني أن الإيمان لن يكون يمان، والحكمة لن تكون يمنية، وتتشظى الرصاصات لتفتك بالجسد اليمني وتمزق ما هو قائم.
هي حالة فريدة أخذت شكل التقليدية أو نتاج السعار الثوري التي عَمت المنطقة في لحظة التحول التاريخي الهامشي ضد الثبات الذي كان سائد، ولكن ليس معظم حالات التغيير والتطور تأخذ الشكل الإيجابي في معظم الحالات، وهو ما يسترعي العودة للتاريخ وقراءته بأعين فاحصة ناقدة، ففلسطين أدركناها بعد أربعين عاماً من ضياعها، والعراق أدركناه بعد تسعة أعوام من ضياعه، فالخشية عدم إدراك حالة الضياع الفعلية لكل زهرات المنطقة إلاّ عندما يتضاعف عددها، وتصبح مضاعفات مجردة كأرقام صفرها على الشمال لا تساوي بالقيمة وجودها.
بناءً عليه فاليوم لحظتنا التاريخية هي تعبير عن استحقاقات كثيرة تنتظر الحسم ومن ثم القرار، وهي المكون الوحيد لحالة الاستنهاض الجماهيري الثورية التي بدأت تتجه صوب استغلال التفوق الديموغرافي في حسم القضايا الرئيسية الشاغلة لحيز التاريخ منذ ما يقارب الستين عاماً ونيف، والتي تؤثر وأثرت في سبر الحوادث وتقلباتها.
فالإدراك عملية عقلية فكرية تعبر عن المسافة بين الوعي وثقافة الوعي التي تشكل مركز الانتظام في رسم وتحديد معلم الحرية، وبناء قواعد مجتمعية متجانسة تشكل مصادر الالتحام مع القضايا والأهداف الرئيسية والفرعية
إقرأ أيضا لـ "سامي الأخرس"العدد 3234 - الجمعة 15 يوليو 2011م الموافق 13 شعبان 1432هـ