تنتج شركات الاتصالات مئات الملايين من الهواتف على مدار العام، وتقدر بعض الإحصائيات بأن نحو مليار (ألف مليون) من تلك الهواتف المصنعة سنوياً هي من نوع الهواتف النقالة يتم توزيعها على مختلف المناطق والأقاليم في العالم، ويتوقع على نطاق واسع أن يمتلك نحو 3 مليارات نسمة من سكان الأرض هواتف نقالة خاصة بهم.
منطقة الخليج من أبرز الأقاليم اقتناءً للهواتف النقالة، نظراً إلى ارتفاع مستوى دخل الفرد وتطور البنية التحتية للاتصالات، حيث كشفت الدراسات عن وجود أكثر من 70 مليون هاتف نقال، وهو عدد يفوق بكثير عدد السكان في المنطقة.
كما أن معدل استبدال الهاتف النقال في المنطقة يُعَدُّ من أكبر المعدلات العالمية أيضاً، وذلك بنسبة تقارب من هاتف جديد في كل 18 إلى 20 شهراً، وعادة ما يتم الاستغناء عن الهاتف القديم عن طريق بيعه أو إهدائه إلى أحد الأقارب أو الأصدقاء أو حفظه ضمن الأغراض الشخصية من دون أي استخدام، وبعد فترة من الزمن يكون مصير الهاتف في المخزن أو سلة ألعاب الأطفال أو المهملات!
قد يكون من المثير معرفته أن الهواتف النقالة تحتوي على عدد من المعادن النفيسة مثل الذهب والفضة والنحاس؛ ما يجعل منها منجماً متحركاً للمعادن الثمينة، ففي كل 50 هاتف نقال توجد كمية من الذهب تكفي لصنع خاتم، هذا بالإضافة إلى الزئبق وبعض الفلزات السامة التي أشارت الدراسات والأبحاث العلمية إلى تأثيرها السلبي على بعض أجهزة الجسم، وتسببها أيضاً في ظاهرة الاحتباس الحراري، فبطارية واحدة فقط تكفي لتلويث أكثر من 600 ألف لتر من الماء.
الأرقام السابقة تدعونا إلى التأمل والتفكير، ففي الوقت الذي لا نملك أية إحصائيات رسمية أو دراسات دقيقة عن عدد الهواتف النقالة القديمة التالفة أو غير المستخدمة في المنطقة، أشارت التقديرات الأولية إلى أن العدد قد يقارب 10 ملايين هاتف نقال غير مستخدم، أي بمعدل هاتفين في كل منزل، وهذا العدد في تزايد مستمر مع طرح مواصفات جديدة للهواتف النقالة بين فترة وأخرى؛ ما يعني بطبيعة الحال مئات الأطنان من المعادن والآلاف من الدنانير المهملة، فيكفينا أن نعلم بأن كمية الذهب المتوافرة في تلك الهواتف غير المستخدمة في المنطقة لوحدها تكفي لصناعة 200 ألف خاتم ذهب، ألا يشكل ذلك منجماً حقيقياً؟!
قامت الشركة الفنلندية نوكيا (العملاقة في صناعة الهواتف النقالة) بدراسة على مستوى العالم شملت مقابلات مع 6500 شخص في 13 دولة من ضمنها بعض الدول الخليجية، حيث ذكرت بأن نحو 3 في المئة فقط من المستهلكين يقومون بإعادة تدوير هواتفهم النقالة في مقابل 44 في المئة يحتفظون بها ضمن الأغراض الشخصية، ومنهم الكثيرون ممن يجهلون إمكانية تدوير هواتفهم النقالة التي يحتفظون بها من دون استخدام في منازلهم.
تلك الحقائق والأرقام شكلت فرصة لبعض المستثمرين الملتزمين بقضايا البيئة والإنسان، فظهرت في بداية العقد الماضي وخاصة في القارة الأوروبية عدد من الشركات العاملة في مجال إعادة استخدام أو تدوير الهواتف النقالة القديمة والتالفة، وذلك بهدف الحفاظ على الثروات الطبيعية بالإضافة إلى توفير فرصة للاتصال والتواصل بين الشعوب الفقيرة والمحرومة من خدمة الاتصالات، ولا سيما في القارة السمراء حيث يعتمد السكان على الهواتف النقالة بصورة أساسية في اتصالاتهم نظراً إلى رداءة شبكات الهواتف الثابتة.
تقوم تلك الشركات بتدوير ما يقرب من 80 ألف هاتف نقال شهرياً، وذلك حسب المواصفات والمعايير العالمية للحفاظ على البيئة عن طريق إصلاح بعضها ومن ثم بيعها في الدول النامية، أو عن طريق تفكيك الهاتف القديم غير الصالح للاستخدام، وبيع المكونات الأساسية على المؤسسات المتخصصة في تدوير المعادن، وقد نشطت تلك الشركات مؤخراً في بناء شراكات تعاون مع المدارس الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني المعنية بذوي الاحتياجات الخاصة والطبقات المحرومة في المجتمع، حيث تتبرع الشركة بنسبة معينة من إيراداتها لجمعيات النفع العام في قبال كل تبرع أو صفقة بيع لهاتف نقال قديم تصلها من تلك المؤسسات الأهلية، وتعد اليوم المبالغ المتحصلة من تلك الصفقات نسبة لا تستهان بها من موازنة الجمعيات الأهلية في أوروبا.
على المستوى الإقليمي أطلقت عدد من شركات الاتصالات في المنطقة حملات خاصة لإعادة تدوير الهواتف النقالة التالفة والقديمة بالتعاون مع شركة إنفيروسيرف، ومقرها دبي بالإمارات العربية المتحدة، عبر تخصيص صناديق لجمع تلك الهواتف في فروع ومراكز مبيعاتها، إلا أن عدد الهواتف التي تم جمعها حتى الآن لا تشكل أية نسبة يُعْتَدُّ بها من إجمالي الهواتف غير المستخدمة، بالرغم من الجوائز التي خصصتها تلك الشركات للحملة؛ ما يعني وجود قصور في الوعي بين الفئة المستهدفة أو إخفاق للحملة الترويجية في الوصول أو إقناع تلك الفئة بالمشاركة.
نرى من الضرورة أن تفكر تلك الشركات في استراتيجية جديدة لتلك الحملات تصل إلى مستوى المبادرات الوطنية عن طريق التعاون مع الجهات الرسمية المعنية بالبيئة والثروات الطبيعية لجعلها أكثر كفاءة من الحملات السابقة، وذلك عبر زيادة المكافآت المخصصة للمشاركين والاستفادة من وسائل الإعلام الحديثة ولا سيما وسائط التواصل الاجتماعي وإشراك مؤسسات المجتمع المدني والمدارس الأهلية للوصول إلى أكبر عدد ممكن ممن يمتلكون هواتف نقالة قديمة وتحفيزهم على المشاركة بعد تعريفهم بالآثار الإيجابية التي تتركها الحملة على البيئة والمجتمع.
قضايا البيئة للأسف لا تأتي ضمن سلم الأولويات عند الكثيرين منا، فمعدل التدوير في مجتمعاتنا يكاد أن يقترب من الصفر في المئة، وهذا بحد ذاته يعد تهديداً حقيقياً على المدى الطويل، فالموارد الطبيعية في العالم في تناقص مستمر؛ ما يشكل تحدياً لحياة ورفاهية البشر على هذا الكوكب، لذا فنحن في أمَسِّ الحاجة إلى أن نرى حملات على نطاق أوسع لتدوير الهواتف النقالة وأكثر كفاءة من سابقاتها، لتكون لنا مساهمة إيجابية في القضايا التي باتت تهم العالم المتحضر
إقرأ أيضا لـ "ناصر البردستاني"العدد 3234 - الجمعة 15 يوليو 2011م الموافق 13 شعبان 1432هـ