لم تنجُ الكتابة العربية مما أسميته ذات كتابة عابرة «صناعة الثرثرة». عدم النجاة تلك على علاقة وثيقة ودامغة بحال صناعة الثرثرة في الخطاب السياسي العربي اليوم، وحال البؤس الذي يعانيه ذلك الخطاب. خطاب الداخل وخطاب الخارج معاً. خطاب يؤثر الإقامة في الوهم، متحفظاً على الذهاب إلى المواجهة. مواجهة مشكلاته والأزمات التي يخلفها من ورائه.

بعض ملمح من النص العربي في أفقه الابداعي - افتراضاً - تخلى عن رؤيته للعالم، وآثر الانشغال بقيم الشكل، واللغة الذاهبة في اتجاهين لا ثالث لهما: الوعر منها، أو رفد حال السذاجة والسطحي عبر النص بما هو كفيل بإرجاعنا إلى حلبات الفراغ وارتهان النص إلى الصناعة المشار إليها بداية هذه الكتابة (صناعة الثرثرة).

لا أعمم في هذا الصدد؛ لكنّ مسحاً يقف عليه كل متابع سيصادف ويصطدم بالسياق الذي تذهب إليه هذه المراجعة العابرة والمذكرة فقط بواقع الحال ولا تملك ادعاء تشخيصه.

ثمة ابتذال تعانيه نصوص حاضرة وماثلة في المشهد الابداعي العربي وباحتفاء وبذخ بالغ، ترفع شعار إنقاذ اللغة وتخليصها من أكثر من قبضة وسلطة؛ فيما هي تعاني من سلطة وقبضة الابتذال، في استغلال بشع لطاقة اللغة اللانهائية؛ بانتخاب أطرافها والموصد من الأبواب التي من المفترض أن تؤدي إلى دهشة ومعنى ومساحات تجريب وجمالية يرتفع بها النص إلى المدى الذي يمثل أفق اللغة قبل أن يمثل أفق صاحبها مهما أوتي من قدرة على كشف طاقتها وإمكانات أسطرتها للعادي؛ أو تقديم العادي بعد معالجته في مختبر اللغة باعتباره فرادة وسحراً!

مجمل النصوص العربية اليوم محاطة بأسرارها «المفضوحة». مفضوحة بثرثرتها التي لا تقول شيئاً، في إمعان يتخذ حركة «المسار الطبيعي» المتوهم؛ باعتبارها انتزعت حق الاعتراف بها من مراكز صناعة الثرثرة، التي تبدأ بالجهات الرسمية، ولا تنتهي بوسائل إعلام ودور نشر لم يعد على قائمة همها أن تصحو من هذا العبث، وأن ترد كيد الثرثرة في نحرها الفولاذي العصي على الاختراق، وإن حدث ذلك، لا دم سيسيل؛ إذ لا دم في المعدن!

حين ينقاد الخطاب الثقافي والنص الابداعي إلى اشتراطات وقيود وهذر وثرثرة المؤسسة لن ينتج عنه إلا المسخ من النصوص، والتلاعب بمفهوم إنقاذ الحياة عبر إنقاذ اللغة التي لن تقف على علامة مرور صريحة وواضحة لها! إنها مشغولة بعلامات «الالتفاف» و «الدوران» و «الوقوف» و «العودة» إلى الوراء. والوراء أفق موصد ومريض، ويراد لبشر تلك النصوص ومن يتلقونها والمحيط الذي تنتج فيه أن يكونوا مرضى كي تقوم الدولة/ السلطة بدورها في الرعاية! أليست دولنا دول رعية؟ ويراد للنص ألا يكون بمنأى عن الرعاية والرعية!

ولرواج صناعة الثرثرة تلك لابد للقواعد والمعايير أن تختفي ويحل محلها الفلتان والبلاغة الاصطناعية وسقوف من الهذيان الرديء الذي لا يقود إلا إلى الوحشة والاكتئاب والفراغ الذي يطال كل شيء. وأعني كل شيء. هذيان في أدنى مراتبه وصوره، ووحشة تذكرك بالقبر، واكتئاب يغريك على وضع حدٍّ للحيوية الكاذبة والمصطنعة، والدم المتخثر في عروقك؛ بفعل هذا الانصياع الإرادي واللاإرادي، لا فرق.

وإذا كانت صناعة الكلام ببعدها العميق والمدهش والمتزن لم تستطع أن تنتشل الواقع من بؤسه وتضمن عافيته بفعل إيقاع الاحتضار الغالب على الحياة العربية عموماً؛ فلن تحقق صناعة الثرثرة إلا مزيداً من تعميق هزيمة الذات والتراجع والذهاب إلى المجهول بثقة بالغة؛ فيما اللغة تنتظر من يقرأ نعيها اللائق بها وهي تشهد على أكوان من القبح ترسّخت باسم جماليتها المغيبة!

صناعة الثرثرة؛ إنها مفترق الطريق بين جوهر المعنى وعدمه