بعد انحباس الزمن والاستعصاء التاريخي لحركة التغيير، بفعل عوامل سلطوية، هبت زلازل الثورات والانتفاضات، من أقصى المحيط وحتى مشارف الخليج في براكين عاصفة قلبت الحسابات والتوقعات، منذرة بتغير عميق الغور كحتمية تاريخية طال انتظارها، فالمنطقة تنشد وتناشد التغير، كي تلج في طريق جديد في التعاطي مع مسألة مهمة وخطيرة، تحدد معيارية البلد ودرجة تطوره، واتجاه نهضته المجتمعية، وتلك مسألة الحكم وطريق تداوله التي أرهقت بلدان المنطقة في مشاويرها الوطنية، وكلفتها فرصاً تاريخية في التطور والنمو والتكامل.
فقد هاجت شعوب المنطقة وماجت، عبر مسيرة تاريخية وطنية حافلة بأشكال الاحتجاجات والمعارضات، بغية شد السلطات إلى إجراء إصلاحات وتغيرات، لكن الظروف الموضوعية لطبيعة المجابهة، والمناخ الدولي المهيمن آنذاك وبالتداخل مع لغة مصالحه وخدماته الكثيرة، خذلا تلك المساعي وأجبراها على التقهقر. ومنذ تلك اللحظة التاريخية المهزومة، ظهرت مشاريع إفراغ المجتمع من قواه الاجتماعية الحيوية على السطح، وتكرست السياسات بمناهج ذهنية السلطة المشدودة إلى وتد السلطة وفقء أعين المعارضة أياً كان شكلها ومراميها. وكان أن خسرت المنطقة جهودها المجتمعية الجمة في المشاركة من أجل صناعة المستقبل، لتضيف إلى ماضيها المفوت قصة هزيمة أخرى، وفرصاً تاريخية ضائعة أخرى.
في أولى المحاولات، سعت الجماهير عبر مختلف قواها الوطنية، لفهم جذور التخلف وبلورة سيرورة تاريخية، من أجل بناء نهضة مدنية، تقود إلى بناء دولة عصرية قائمة على مقومات أساسية، في مقدمتها دمقرطة مركز القرار السياسي ومنهجه، تجاوز أجواء القروسطوية بكل مفاهيمها ومرتكزاتها الفكرية والاجتماعية والثقافية، معادلة الشد والجذب السلمية الجماهيرية تحولت من جهة السلطة إلى حرب لا هوادة فيها، فبدلاً من أن تتجاذب النخب السلطوية مع المشاريع الجماهيرية، راحت تمارس فنون القمع والتشريد بحق شعوبها، وقادتها راديكاليتها العنفية المتشددة إلى استحضار كل المخزون التاريخي القمعي إلى الميدان، وكأنها تحارب عدواً خارجياً، فيما راحت ماكنتها الإعلامية التي تجيد حبك الأكاذيب، وتشويه الصور وحتى تلك التي تعطي معنى حضارياً للمجتمع مع ما فيه من فائدة لها، بغية تزوير الواقع والوقائع، ومحاولة تزييف الوعي، فضلاً عن إشاعة ثقافة وفكرة المؤامرة ومخططاتها، لتوصم من خلاله كل محاولة وطنية وجماهيرية مطالبة بتحسين الأوضاع بالعمالة للأجنبي والتمرد والعصيان، فكأن السلطان قديس، والشعوب شياطين مردة، على أن تاريخ المنطقة يشهد، بأن عقود التخادم وتبادل الأدوار، والتفاني المفرط في خدمة الأجنبي جاءت من أنظمة الحكم بامتياز، فالزواج الكاثوليكي ما بين الأنظمة المستبدة، وقوى الهيمنة، كانت ميزة عصر بأكمله، وقد قادت المنطقة إلى وراء لعقود طويلة، وتلبست آثارها شعوب المنطقة، وامتدت لتشمل مناطق أخرى من العالم، لا تقل حيوية سياسية عن المنطقة ذاتها، وبالنتيجة ان سياسات الأمس خلقت مشكلات تفجيرية مؤجلة، إن محلياً أو إقليمياً أو دولياً، وظهرت فاتورة الحساب على المسرح.
تاريخ القمع الحديث في المنطقة بكل فنونه ومراحله التاريخية، تاريخ الأنظمة ذاتها. وقد دأبت لتختزل الطرق في بسط المناخ الاستبدادي، ولعل الممارسات المدروسة من قبلها، بشأن إضعاف وتفكيك مجموعة القيم الايجابية في مجتمعاتها، ليفقد المجتمع دعته وطيبته وامتثالية المجتمع التقليدي، ومحاولات تقويض الفرص التاريخية التي جاءت بها الجماهير، بدل أن تأتي بها، لتمثيل القيم كمنهاج والزامات المجتمعات العصرية، وامتلاك العقلانية، والعيش بدلالة المستقبل. فقد سعت إلى تشويه الإنسان المواطن، وإضعاف رابطته الوطنية رغم فشلها فيه، وشحن وإذكاء أذهان العامة، بالجري وراء المصالح الأنانية الضيقة مدفوعة بشهوة الربح على حساب تقديس الإنتاج والعمل. وحاولت بكل السبل تطوير قدراتها القمعية من أجل الفتك بشعوبها، ومحاولات تكييفها وفق قوالب السلطة، التي اعتمدت سياسات التعمية المدروسة لجعل المواطن أسير دائرة ضيقة في فسحة حياة أضيق، وأشاعت فلسفتها البالية من أن السياسة شأن الحاكم وحده، وانعطفت الأمور باتجاهات خطيرة، عندما استخدمت السلطات سياسة تجويع الشعب، على طريقة «جوع كلبك يطيعك»، كما أشيع في العراق إبان عهده البائد، فضلاً عن خلق أزمات مفتعلة دراماتيكية تعمل كملهاة مدوخة للشعب، وخصوصاً عند الأزمات أو الإقبال على أمر قد يثير حفيظة الشعب، دون أي مسحة خجل أخلاقية أو حقوقية، كونهم يديرون أوطاناً، لا شركات تجارية أو منتجعات خاصة، من أجل مصادرة الإرادة الحرة، وبلورة اتجاهات الخنوع ضمن المشروع الاستبدادي المهيمن، وتجاوزت الأنظمة كثيراً، وتمادت في إذلال شعوبها المقهورة، بشتى أنواع الحيل السياسية المكشوفة والمبطنة.
والحقيقة أن الأنظمة، وهي تقود دولاً تقليدية، حاولت إضافة مسحة عصرية تحديثية مزيفة لها من خلال دساتير استبداد مؤقتة شرعتها بعيداً عن مشاركة الشعب، وهي الخارجة من رحم القبلية، أو التوجهات الدينية حسب الطلب القاصرة عن استيعاب الحداثة ومفاهيمها.
مثل هذه الدول، لا تعترف للفرد بصفة المواطنة، فهم أفراد أو رعايا أو «أشياء» فحسب، وهذه النظرة في العلاقة بين الدولة والمواطن مادامت من ثوابت الأنظمة فإنها تبقي الشعب دون تاريخ سياسي، إذ تتعاطى معه كأب في أحسن الحالات، أو كجلاد ونهّاب في أسوأ الأحوال، وبالنتيجة ان تراكمات عقود عديدة، وتراجعات على كل الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، قد خلقت ترسبات نفسية وفكرية، وجروحاً وشروخاً عميقة في آدمية الإنسان في هذه المنطقة من العالم.
إن تكريس الجهل والتخلف، وبعث ما يمدهما من الرواسب التاريخية كايدولوجيا يتيمة، بغية تجديد الدورة التاريخية للسبات المزمن.
إن الأنظمة الجاثمة فوق صدور شعوبها، تواجه الآن زلازل الانفجارات السياسية التي صنعتها بأياديها، ولا تملك إزاءه أي مقاومة للصمود، حيث ولّى عهد المعالجة بوسائل الدولة والتغطية الخارجية، التي أضحت نكتة ساخرة لن يسمح العالم بتكرارها كالماضي.
إن النخب الحاكمة، وسلطاتها الدكتاتورية، يغيب عن وعيها المشوه، أن بذور الثورة كامنة في الأعماق، وقد وصلت ذروة نضجها، وهي كحتمية تاريخية، لابد لها من أن تطيح بالعروش، أيفقه البعض سر التحول، وينزوي بعيداً عن آثامه، ويعي أن اللعبة قد انتهت؟
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3229 - الأحد 10 يوليو 2011م الموافق 08 شعبان 1432هـ