العدد 3229 - الأحد 10 يوليو 2011م الموافق 08 شعبان 1432هـ

لا تثقوا بالمدن

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

لا تثقوا بالمدن. في المدن فرص كبيرة لاغتيال الروح. فرص أكبر لاغتيال العفوية والنقاء.

في الريف/ القرية، ثمة أنهار تغذي حالات الجفاف الطارئ في العلاقات بمزيد من حصانتها وعفويتها.

كلما تمدَّدت المدينة كلما تقلصت فرص أحضانها. تظل باردة كطقس مستفز ومقيم في الوقت نفسه. لا دفء فيها. لا دفء في الأسمنت والجسور والأنفاق والمجمعات التجارية. تلك لا تمنحك دفئاً؛ لأنها مشغولة بشكل دائم بهمها الشخصي.

المدينة بمشاعر ملكية خاصة.

الريف/ القرية بمشاعر ملكية عامة إلى الفطرة تنحاز، وإلى البساطة تأوي، وإلى جانب العفوية والبداهة تقف وتصطف.

في المدن الكبرى لا أحد يسأل عن أحد. المدينة مشروع انفصال في العلاقات وتفكيكها.

في الريف/ القرية مشروع التحام وتأكيد لتلك العلاقات.

كلما تعقدت وازدحمت تفاصيل المكان في المدن، كلما كانت ساتراً وحاجباً ومانعاً لصراحة ونهار المشاعر ودفئها.

العالم اليوم ينحاز إلى عُقَده أكثر من انحيازه إلى مشاعره البسيطة تجاه من حوله.

والمدينة في اللبِّ من إشاعة وبث مثل هذا الوضع المرتد والمنقلب.

في المدن تشعر أنك في جزيرة منعزلة عن تفاصيلك وعواطفك وذاكرتك. تدخل في درس تمحيص الثقة والعلاقات والطمأنينة.

كل شيء يأتي بإيقاعه الرتيب. بدءاً بالتحية، وليس انتهاءً بمراسم عزاء.

«أخلاق الزحمة» التي أنتجتها المدن لا تدع أفقاً لتحية عفوية؛ أو عذراً لسوء فهم.

تنقضُّ عليك قبل أن تشرع في السهو؛ عدا القصد.

والمدن الغافلة والممعنة في توسعها وامتدادها، لا «ترحم عزيز قوم ذل»؛ إذ ليس في ثقافتها «القوم» أو «الرابطة» أو العزة. قومها الذين من سنخها وثقافتها. سنخ الأنا وثقافتها رؤوس أموال تنشط دورتها الدموية ولو على حساب عرق ودم الآخرين. والرحمة عندها ألاَّ ترحم أحداً إذا تعلَّق الأمر بمسألة أن «تكون أو لا تكون»؛ بغض النظر عن أخلاقية الكينونة تلك؛ لأنها خارج الخدمة في هذا الصنف من الوعي الذي تفرزه تلك المدن.

وفي المدن، موضوعات البيئة لزوم مشهد له أكثر من وجه ولعب ومناورة وقفز على قيم العولمة في طبعتها المنقحة التي اضطرت إلى وضع البيئة على أجندتها؛ بعدما حوَّلت رئة العالم إلى منجم قار!

والمدينة لا تمنحك صك براءة ولو جئتها في هيئة نبي؛ ولو أربكت مسار أخلاقها وتعاطيها مع الحس، في مراجعة مؤقتة تحيلها إلى التجربة والتحليل؛ فكل شيء يحتكم إلى معملها ومجساتها الحرارية وغير الحرارية؛ لكنك في نهاية المطاف؛ ستصبح مشروع إقصاء وإبعاد عن أسوارها وقاعاتها المغلقة، وتفاصيل علاقاتها السرية حتى مع نفسها!

ثمة أطراف في المدن تشذ عن قاعدة الهول التي أرستها تجارب كثيرين مع المدن؛ ليس بحكم أنهم في مساحة العبور؛ ولكن باعتبارهم مقيمين ومنتمين إلى الجمع البشري الذي يحويها؛ غير أنهم جاؤوا من خارج حدودها.

تشذ من حيث قدرتها على التحايل في التخفيف من ذلك الهول وانعدام الحس وقدرتها على فعل الاغتيال؛ بمنحك ركناً في مقهى يطلُّ على ماء الله وخضرته.

بمنحك ركناً يحجب الضوضاء عنك في الخارج. يحجب ضوضاءها وضوضاء سياساتها وتعاليها وإقصائها بمنحك ركناً تستطيع من خلاله أن تحصِّن نفسك من كل تلك الهستيريا والانهيار العصبي في الخارج.

اعبروا إلى المدن واختاروا ركنكم الذي يذكركم بمكانكم الأول ولكن لا تثقوا بها. إنها مشاريع اغتيال لأرواحكم وفطرتكم

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3229 - الأحد 10 يوليو 2011م الموافق 08 شعبان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً