«بنجامين كاردوزو» واحد من أهم قضاة المحكمة العليا بل ومن أهم القانونيين إطلاقاً في تاريخ الفكر القانوني الأميركي،حفظ المهتمون بالقانون كلمة له شهيرة عن المجاز ولغة القانون حينما قال «إن المجاز والتعبيرات المجازية لابد أن تتم مراقبتها بعناية؛ فهي قد تبدأ كوسيلة لتحرير الأفكار والعقول ولكنها تنتهي لاستعبادها»...وكان قالها في الحديث عن الشركة في الفكر القانوني الحديث حين تحولت إلى «شخصية»اعتبارية مستقلة وأصبح يتم التعامل معها قانونياً على أساس أنها «شخص» له استقلاليته عن المساهمين وله دائنوه. وبالفعل فمع أن «الشخصية الاعتبارية» في الفكر القانوني الحديث اختراع مفهومي مبدع لأجل إتاحة الحرية للشركة في الاستقلال والدوام وعدم الارتباط بمالك واحد تموت الشركة بموته إلا أن هذا المفهوم نفسه قد يستعبد الناس حين تصبح الشركة مستقلة تماماً ويتم التعامل معها على أساس أنها «مواطن» صالح وليس لخدمة المواطنين الصالحين.
في الولايات المتحدة الأميركية... وقبل عدة أشهر دار جدل عريض حول استخدام الشركات في صناعة الحملات الانتخابية والتصويت وتم التعامل قانونياً مع (الشركة) على أساس أنها «شخصية» يحق لها التحرك والتجمع وتشملها حرية الحديث المكفولة بالدستور. قد يبدو مضحكاً أن الشركة يحق لها الحديث والتعبير كسائر الناس... لكن في الوقت نفسه لا يحق لها التصويت فكل أفرادها لهم أصوات معينة... وهذا بالتحديد هو الوهم الصنمي الذي صنعته اللغة... فالقضاة الذين اعتبروا الشركة «شخصاً» فعلياً نسوا أصله المجازي وأن هذه الشخصية للشركات إنما هي «صنم» صنعه القانون نفسه ونسيه... لدرجة أن زاحمت هذه الشخصية الاعتبارية حقوقاً كثيرة للأشخاص الحقيقيين من الفقراء وغيرهم.
حين سمح القانون للشركة بحق استخدامها في الانتخابات وحقوق أخرى برزت ظاهرة خطرة هي أن الرجل الأكثر غنى (وليس الأكثر أهلية أو نفعاً) يحمل الفرصة الأكبر للنجاح في التصويت والانتخاب وشراء قلوب الناس بالمال وبهذه الشركات التي تغولت وأصبحت «أشخاصاً» قانونية تحمل «جوازها» الخاص وشهادة ميلادها التي تحتفل بها كل سنة.. وفي هذه الحالة بالذات حين تتغول الشركات يتم استعباد الناس بطريقة ملتوية في دول تظن نفسها أنها حرة بما فيه الكفاية.. وهنا نتذكر مقولة كردوزو مجدداً في تلك المفاهيم القانونية والمجازية التي تبدأ لتحرير العقول.. ثم تنتهي لاستعبادها.
هذه المفاهيم الآسرة التي تتكثف عبر الزمن والتاريخ في إطلاقات معينة يفقد الباحث بعد مرور الزمن قدرته الحرة في تفكيك مقولاتها ومساءلة حقيقتها..
وهذا الشيء هو الذي جعل ابن حزم يزلزل ما يعتقد أصحاب المذاهب الفقهية بوضوحه مثل القياس فقام ابن حزم على فكرة «القياس» الفقهية وحلل أصولها ومجازاتها وفككها، وهذا الفكر الذي يعيد النظر بمجازاته هو الذي جعل ابن رشد يعيد قراءة الحكمة على أساس أنها صديقة الشريعة... وجعل ابن تيمية يشكك في ما يعتقد أهل الكلام بدقته كالتأويل... وهو نفسه الذي جعل فرانسيس بيكون يعتقد أن أصنام الفكر الأربعة هي التي وقفت تجاه العلوم وجمدت كل أركانها وهي صنم (القبيلة أو التراث) وصنم (الكهف أو الإنسان الذي يحيل إلى عاداته الخاصة وذاته) وصنم (السوق أو الحقائق التي تتطور عبر التواصل الاجتماعي والتبادل) وصنم (المسرح أو الثقافة المتلقاة)... فهو هنا يريد أن يعود لقانون المنطق السببي والتجريبي الذي تأسس عليه فكر التنوير الأوروبي الحديث.
حدد بيكون الأصنام الفكرية في تلك الأقسام الأربعة التي تشير إلى (القبيلة) وهو الموروث إما عبر القبيلة او المجتمع... وإلى (الكهف) وهو أوهام الفرد نفسه التي طورها دون شعور... وإلى (السوق) وهي المفاهيم التي تلقاها الإنسان من خلال التواصل والتبادل مع الناس سواءً في السوق أو الحي أو حتى أدوات التواصل الاجتماعي المعاصرة كالفيسبوك وتويتر وغيرها... والرابعة إلى (المسرح) وهي المفاهيم الثقافية والفلسفية المتسربة من العلوم المقروءة المختلفة.
ومع أن تلك التصنيفات التي وضعها بيكون أسس عليها فكره التنويري ليصل إلى التجريب والفكر التقني، إلا أن فكر ما بعد التنوير أعاد النظر كثيراً حتى بمسلمة بيكون... فبيكون نفسه لديه أصنامه الخاصة.
أصنام بيكون إذاً مجرد أمثلة لأنواع مختلفة من المفاهيم تتطور بشكل لا شعوري وباطني داخل كل عقل وثقافة دون أن يجري عليها قانون الفحص والتدقيق والاختبار... والأصنام الأربعة كلها جمعها كاردوزو في كلمة «المجاز».. ولعل هذا الغبش والاحتمالية التي يحملها كل مجاز هو ما دفع ابن تيمية لإنكاره...بل وعدّ ابن القيم المجاز طاغوتا بالمعنى المفهومي.. فيا لهذا المجاز الذي جعله ابن القيم طاغوتاً واعتبره بيكون صنماً.. وخاف منه كاردوزو.
وهنا ماذا صنع المجاز لينال كل هذا الترهيب؟ في عالم السياسة والقانون تم استعمال المصطلحات المجازية والتعبيرية لتلطيف البشاعات ولقلب الحقائق، وهذه هي الحالة الأورولية كما يسمونها.
الحالة الأورولية... هي نسبة للأديب الإنجليزي «جورج أورويل» صاحب رواية 1984م حين صنع روايته عن مكان مفترض تنقلب فيه الحقائق فوزارة الحرب يسميها وزارة السلم ووزارة الكره يسميها وزارة الحب.. حتى كأن «أورويل» يتحدث عن الزعيم الليبي الذي لايزال يظن أنه الثائر المحرر.. ولم يعد يصدق أنه هذه المرة هو هدف الثورة.. فهذا هو المفهوم الذي استعبد القذافي واستعبد به نفسه.. ولعل هذه الحالة هي التي حدثنا عنها القرآن حين قال «استخف قومه فاطاعوه».
كان أورويل لماحاً حينما لاحظ أن الكلمات والتعابير هي أساليب الدفاع عن الأشياء التي لا يمكن الدفاع عنها فأورويل نفسه ولد في بنغلاديش يوم كان أبوه في مستعمرة بريطانية وحضر كيف كان البريطانيون يبررون استعمارهم بكلمات التلطيف والخداع. وليس غريباً على سبيل المثال ذيوع كلمة «استعمار» أو «انتداب» في حالات أصح ما يقال عنها بأنها احتلال عسكري لبلد آخر من أجل نهب ثرواته. لقد شهد أورويل عمليات التطهير والترحيل في روسيا واستعمار الهند وإلقاء القنابل الذرية على اليابان ورأى كيف يتحدث مرتكبو كل تلك الجرائم وكيف يتوسلون المجاز والعبارات المغمغمة لإخفاء بشاعة أعمالهم. لقد شاهد أورويل أيضاً كيف صنع هتلر بالمصطلحات المجازية المعاصرة فخلق حالة مما يسمى باستبداد الكلمات.. فهو كان يسمي محارق الغاز وقتل كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة تخلصاً من العناصر غير النافعة.. فهو يدفن بشاعة تلك المخازي بركام الكلمات الميتة!
بعد كل هذا.. ماذا صنع لنا المجاز.. بدأ بفتح آفاق المعرفة وتعدد المفاهيم ولكنه كبلنا بنفسه واستعبدنا بمفهوم واحد في النهاية، فالحرية المفاهيمية تبدأ حين نتخلص من رق المصطلحات لنفهم الحقائق والوقائع الجارية.. فحتى لو اشبعتنا «إسرائيل»صراخاً أنها «تدافع عن نفسها» ، هي ترتكب أبشع أشكال الإرهاب السياسي.. وبين الدفاع عن النفس والإرهاب.. يركض الاستبداد
إقرأ أيضا لـ "عبدالله العودة"العدد 3227 - الجمعة 08 يوليو 2011م الموافق 06 شعبان 1432هـ