كل الإسلام والمسلمين وربطهما الربط المحكم بالإرهاب وهو جوهر الخطة الصهيونية التي أعلن عنها رابين وبيريز عقب انتهاء الحرب الباردة استبقاء لدور صهيوني في الاستراتيجيات الغربية، ومع ذلك فإن أيما دارس منصف للإسلام وحركاته لا يعسر عليه أن يتبين الألوان الحقيقية وسط هذا الضباب والقيام بفرز واضح تتمايز معه الأضداد فيرى بكل جلاء:
- إن مبادئ الإسلام كما فهمت قديماً وحديثاً من قبل جمهور المسلمين وكما تدل عليها بجلاء نصوصه الثابتة في الكتاب والسنة وكما طبقت عبر تاريخ طويل لا تقدم سنداً للرؤيا الأحادية الحرفية الضيقة التي روج لها الخوارج القدامى والمحدثون من أنصار جماعات التطرف. الإسلام كما فهم وطبق من جمهور المسلمين لقرون طويلة يقدس الروح البشرية ويعلي من كرامة الإنسان من حيث هو إنسان ويعطيه حقوقاً ثابتة بذلك الوصف، تضمن حقه في الحياة والحرية في اختيار عقيدته وتقرير مصيره. الاعتقاد محله القلب ولا سلطان عليه لأحد إلا الله والحساب عليه عند الله، فلا سلطان للدولة على نوع اعتقاد الناس وما يسلكون في بيوتهم وما ينتهجون من أساليب لتنظيم أحوالهم الشخصية من زواج وطلاق ونفقة وما إليه، وفيما يختارون من مناهج لتربية أطفالهم وما إلى ذلك من خصوصياتهم، وفي القرآن توجيه للنبي واضح في التعامل مع اليهود الذين كانوا مواطنين في دولة المدينة حسب قاعدة «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) فهم أحرار في الاحتكام في أحوالهم الشخصية للإسلام أو للنظام القانوني الخاص بهم.
فكل ذلك يمكن أن يقبل أكثر من نظام قانوني، خلافاً للدولة الغربية التي تعتبر القانون تعبيراً عن إرادة الدولة فتقصر مواطنيها على نظام قانوني واحد حتى في تنظيم أحوالهم الشخصية. كما أن غياب تمأسس الدين في مؤسسة رسمية تنطق باسم السماء أفسح المجال واسعاً أمام حرية الاجتهاد بما ولّد حركة فكرية وفقهية وفلسفية نشطة طرحت على المسلمين فيضاً من المذاهب والفهوم يختارون منها ما شاءوا بحسب ما يرتضيه ضميرهم الديني ويبقى للفهم الذي ارتضته الغالبية الحق في تنظيم الشأن العام للناس تاركاً للناس حرية تواصل الحوار والجدل والاختيار.
وهو ما وفر - زمن ازدهار حضارة الإسلام ـ تعددية واسعة في الحياة الإسلامية اتسعت للمسلمين على اختلاف اجتهاداتهم ومدارسهم ولغير المسلمين مهما اختلفت عقائدهم ونحلهم. وكان ذلك من أهم ما امتاز الحضارة الإسلامية أنها حضارة الحرية والتعدد فلم تضق بمذهب إسلامي أو غير إسلامي. ولايزال العراق وهو أخصب أرض ازدهرت فيها حضارة الإسلام يمثل فسيفساء من الأعراق والمذاهب الإسلامية والديانات حتى الإحيائية منها مثل اليزيدية.
ولم يشهد التاريخ أن طائفة مسلمة أو غير مسلمة استهدفت من قبل الخلافة بالاستئصال. وهو ما يؤكد أن التطرف قديماًَ وحديثاً هو شذوذ عن مبادئ الإسلام وعن المجرى العام لتطبيقه وحضارته، إنه ضرب من التخلف وضيق في الأفق وحرفية في الفهم لا يتسعان لهذه الرحابة التي جاء بها الإسلام والتي استوعبت كل الاختلافات والاجتهادات فتعايشت كلها في وئام وأسهمت كلها في إثراء حضارة الإسلام أيام ازدهاره.
فكانت بغداد وقرطبة والقاهرة وشيراز وساراييفو وغيرها من حواضر المسلمين، تذكر بلندن وباريس وفرانكفورت ولوس أنجليس من جهة ما تزخر به من آداب وعلوم وفلسفة وتجارة، فضاء قد اجتذب إليه أرفع الكفاءات من أقطار الأرض على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم. وتلك هي الحضارة: فضاء رحب يجتذب أرفع الكفاءات مقابل التطرف والتخلف: ضيق في النظر وعنف في المسلك طاردان لكل ما هو جميل وكفء، وذلك بصرف النظر عن نوع المذهب والمرجعية لكل من التحضر والتخلف.
- إن جماعات التطرف والعنف لا يمكن إلا أن تكون محدودة العدد والأثر ولن يكون لها من مآل غير ما كان لها في مراكزها الأصلية في مصر، إن معظمها في مصر والجزائر قد فقه الدرس وأقدم على التوبة في شجاعة والبقية لجت في العناد مستفيدة من أزمة الحكم المستفحلة ومن الظلم الدولي الغاشم ومن بقايا من فكر التشدد مبثوثة في جوانب من الثقافة الإسلامية، ولكن الفطرة التي فطر الناس عليها لا تأنس للتطرف ولا تطيقه ولأن تلك الجماعات عاجزة عن بناء شيء لأنها قوة غضب وهدم لا قوة بناء وذلك بسبب ضيق أفقها فهي لا ترى في الإسلام غير وجه واحد، عاجزة أن ترى شيئاً خارجه فتكفره وتنفيه، ولأنها عاجزة عن نقل قناعاتها إلى جمهور واسع فما يبقى لها من سبيل غير العنف، ولذلك كثيراً ما تراها تمثل الوجه الآخر للأنظمة التي تزعم أنها تقاومها، فهل مقولة الفسطاطين المنتزعة من سياق صحيح هو الحديث عن الوقائع التي تسبق قيام الساعة والمنزلة في غير مكانها، تختلف كثيراً عن مقولة الخير والشر: معي أم مع الإرهاب؟ إن التطرف والعنف رد فعل فاسد عن مشكلات حقيقية. وما لم تعالج تلك المشكلات الحقيقية فتنصلح العلاقة بين الشعوب والحكام في اتجاه اقتراب الدولة من المجتمع في فكره ومصالحه ومطامحه، وما لم تنصلح العلاقات الدولية في اتجاه قدر من العدل والحد من نزوعات الهيمنة ودعم الظلم الصارخ في مواقع شتى مثل فلسطين والشيشان فسيظل التطرف والعنف يجدان أرضية مناسبة باعتبارهما استجابة غضبية واندفاعة لا تحتاج إلى كبير عناء في التأمل والتفكير والتربية والتنفيذ.
ولأن التطرف والعنف بديلان عن الرفق محدودا الأثر مجافيان للفطرة وللمجرى العام للأمة ولحركات الإسلام الصحيح فإنه لا مستقبل لهما، وهما لا ينتعشان إلا في مناخ الأزمات لتنبيه العقلاء إليها، ومع ذلك يمكن أن يفسدا كثيراً ويضيعا جهوداً وطاقات كبيرة ما لم تتجند كل طاقات العقلاء لمقاومة هذا البلاء ضمن معالجات شاملة لا تقف عند الظواهر والمعالجات الأمنية وإنما تغوص إلى الأسباب والجذور فتأتي عليها. إن التطرف في الفهم والعنف في فرضه جديران بالإدانة والشجب لا بالاعتذار والتسويغ، ولكنهما ككل الظواهر الاجتماعية المعقدة حريّان بالدرس والتحليل للوقوف على الأسباب التي تدفع شباباً متعلماً تعليماً راقياً أحياناً وعلى استقامة والتزام ومكانة اجتماعية واعدة غالباً لماذا يلقي بنفسه في هذا الأتون؟ إنها طاقات ثمينة تُدمَّر وتُدمِّر غيرها؟ لماذا؟ لا مناص من البحث ووضع المعالجات المناسبة المكافئة لتعقّد الظاهرة.
وفي كل الأحوال من واجب العلماء والدعاة أن لا يسمحوا للتطرف والغلو أن يختطفا الإسلام وفيهم عين تطرف، جزء من الميثاق المأخوذ عليهم من فوق السبع الطباق. قال تعالى: «ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»
إقرأ أيضا لـ "راشد الغنوشي"العدد 3227 - الجمعة 08 يوليو 2011م الموافق 06 شعبان 1432هـ