إن المبادئ السامية والقيم النبيلة كثيراً ما يساء إليها، إلى حد حملها على أضدادها، سواء أكان ذلك بالتأويل المتعسف، أم بتجاوز حد الاعتدال في التطبيق، فيتحول الجهاد في الإسلام ـ مثلاً ـ من دفاع عن الحرية والعدل إلى ترويع للآمنين وإرهاب للمؤمنين أو المستأمنين واستحلال للدماء البريئة والأموال المعصومة. ومن مثل تحول التقوى إلى سلبية وانعزال وتدمير للطاقات الحيوية في الإنسان بدعوى شدة الحرص على التدين كما فعل النفر من الصحابة الذين اعتزلوا الحياة في المسجد، فقال أحدهم أصوم ولا أفطر، وقال الآخر أقوم الليل ولا أنام، وقال الثالث أعتزل النساء تفرغاً للعبادة، فبلغ ذلك النبي (ص) ففزع من هذا التوجه ودعا الناس إلى اجتماع عام عاجل، فحدثهم عن ظواهر شاذة عن نهج الإسلام الوسطي قد أطلت برأسها وسط نفر من الشباب الإسلامي المتحمس، وحذرهم من التشدد والغلو، فإن تجاوز حد الوسطية في الخير كالصلاة والتلاوة ليس خيراً بل شر، ونبههم إلى واجب الالتزام بسنته العادلة ونهجه الوسطي وذكرهم بأنه أعرفهم بالله وأتقاهم وأنه يصوم ويفطر ويقوم الليل وينام ويتزوج النساء. ثم ختم خطابه (ع) بهذا الحسم «فمن حاد عن سنتي فليس مني».
ومع ذلك تعرض الإسلام في مراحل كثيرة من تاريخه إلى خطر التشويه والإساءة له واستخدامه لما يصادم مقاصده سواء أكان ذلك من طريق التعسف في التأويل أم بالمبالغة وتجاوز حد الوسطية، فتحول الجهاد لدى جماعات من المسلمين سياسية ودينية إلى استباحة واسعة لدماء المسلمين في تجاهل شنيع لتعظيم الإسلام لحرمة الدماء حتى عد «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً». ويعجب المرء وهو يقرأ آية النساء وما ورد فيها من تهديد ووعيد إلهي لكل من يقدم على جريمة استباحة دم مسلم بغير حق، وعيد وتهديد لم يأتِ مثلهما بشأن أي جريمة أخرى أو ذنب. اقرأ معي: «ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله ولعنه الله وأعد له عذاباً عظيماً»(النساء 92) يعجب كيف تمت استباحة مئات الآلاف من أرواح المسلمين عبر التاريخ بمجرد تأويلات باطلة متطرفة نزعت عن الملايين من المسلمين حرمة وهبها الله لهم لمجرد أنهم لا يشاطرون قلة موتورة المزاج ضيقة الأفق حرفية الفهم، لا يشاطرونها فهمها الحرفي الضيق للدين وموقفها السياسي من الحكم، أو نهجها في التعامل مع مظالمه، فما كان منها إلا أن كفرت الحاكم وكل من يعمل معه بل كل من لا يشاطرها مواقفها المتطرفة، ولم تقف عند هذا الحد بل انتصبت في مقام القاضي لتصدر أحكاماً باستباحة أموال ودماء مخالفيها، وتتولى إنفاذها، منحدرة من الحاكم ـ بعد أن قصرت يدها عنه ـ إلى حاشيته وأعوانه، وظلت تمتد بسرطان التكفير إلى أن شمل المجتمع أو أغلبه، كل جهاز دولته من رجال أمن ومالية وتعليم فكلهم كافرون مستباحو الدم وكل من شك في كفرهم فهو كافر أيضاً.
إنها الاستعادة البلهاء المأساوية لسيناريو الخوارج فكراً ومنهاجاً، أولئك الذين لم يشك الإمام علي وقد كفروه وأهدروا دمه، في تقواهم وأنهم من الكفر فروا، ولكن النفس البشرية تتوافر على مساحات واسعة وطبقات معقدة لاجتماع المتضادات إذا لم يسعفها فهم رشيد ووعي سديد وتربية قويمة، لا سيما مع وجود إخلال في المجتمع قد تصل إلى حد المظالم الكبرى، كما هو الحال في عصرنا حيث بلغ التناقض بين الدولة والمجتمع في معظم البلاد وضعاً غير مسبوق من جهة سلوك الدولة وتفلّته من ضوابط الإسلام وقيمه الأخلاقية ومفاهيمه الثقافية وعدله الاقتصادي والسياسي والقضائي، ومن جهة سياساتها الخارجية في تبعيتها للدول غير الإسلامية، بل المحاربة للإسلام، بينما شعبها لايزال ملتزماً على نحو آخر بالإسلام بل إن التزامه مع تفشي الصحوة الإسلامية ـ في تصاعد، وينتظر من دولته أن تعبر عن ذلك في جملة سياساتها الداخلية والخارجية، فإذا هي كثيراً ما تتصرف في سياساتها الداخلية وكأن الإسلام مسألة شخصية لا علاقة لها بالمجال العام الأخلاقي والتربوي والثقافي والتشريعي، كما أنها تنهج في سياساتها الخارجية، لا من موقع أنها جزء من أمة يقتضي الانتماء لها واجبات والتزامات بل من موقع الدولة- الأمة، فتنظم علاقاتها بالخارج في ضوء ما تقدره من مصالح وموازين قوة، فيستوي في ذلك العربي والمسلم بغيرهما، بينما لايزال مجتمع تلك الدولة يعتبر نفسه جزءاً من أمة كبرى أمة العرب والمسلمين وينتظر من دولته أن تتصرف وفق ذلك صداقة وعداوة. ففي قضية فلسطين ـ مثلاً ـ يبدو التباين صارخاً بين موقف الشعوب وموقف معظم الحكام، فهي عند الشعوب قضية ذات أولوية تسبق حتى القضايا المحلية بينما هي عند أكثر الحكام قضية خارجية نناصرها بحسب مصلحة الدولة.
الشعوب ترى في «إسرائيل»العدو اللدود الذي يجب أن يحارب وتبذل كل المساعدة لمحاصرته ودعم كل جهد لوضع حد لاحتلاله الأرض المقدسة، بينما أكثر الحكومات ترى من مصلحتها مسالمته وتبادل المصالح معه، وعدم إقامة أي اعتبار لهذه المسألة في علاقاتها الدولية. ويمكن أن تقاس على ذلك القضايا الإسلامية الأخرى مثل قضية الشيشان واحتلال العراق، حيث رأينا شعوباً تحترق ألماً وتتطوع لمواجهة قوى الاحتلال وحكومات تتعاون مع المحتل وتكتفي بالمجاملات الكلامية.
الخلاصة أن هناك أزمة تزداد يوماً بعد يوم استفحالاً في علاقة الدول العربية والإسلامية بشعوبها لا يبدو لها من علاج دون الإقدام على إصلاحات ديمقراطية حقيقية. وإن من أسباب هذه الأزمة الموقف من الإسلام والمسلمين، الموقف من قضايا الأمة الكبرى مثل قضية فلسطين والعراق، الموقف من قضية توزيع الثروة حيث يتجاور في مدننا الكبرى الترف مع الفقر الكافر، كما تتجاور المساجد مع الخمارات ودور الخنا والفجور، بما يجعل الهوة بين أكثر الحكام والنخب العلمانية المحيطة بهم وبين الشعوب التي تزداد وعياً والتزاماً بالإسلام وتترّساً به لمواجهة موجة التحلل العولمي والهيمنة الاقتصادية والثقافية الإمبريالية الصهيونية الأميركية.
إن الهوة بين الطرفين تزداد يوماً بعد يوم اتساعاً على كل صعيد بين الخطاب الرسمي والممارسة، بين مقتضيات الدين كما تفهمها الشعوب وبين سياسات أكثر الحكام حتى غدا ذلك الطابع المميز للحياة في بلاد العروبة والإسلام. إن كل ذلك يمثل تربة خصبة لتصاعد الاحتجاج ولتفريخ التطرف بكل أنواعه وتفجر العنف. صحيح أن الحديث اليوم متمحور حول نوع واعد من التطرف والعنف ذي المصدر الإسلامي لأن الإسلام يمثل اليوم المزاج الثقافي العام للأمة فهو وقود الاحتجاج على غرار ما كان عليه الأمر في الستينيات والسبعينيات حيث كانت الثقافة اليسارية والقومية هي السائدة، فكان الاحتجاج والعنف مصطبغين بصبغتها، الحديث اليوم ليس بالطبع عن التطرف في التذيل للقوى الدولية ولا هو التطرف في الخنوع للصهاينة وللهيمنة الأميركية ولا هو التطرف في احتكار الثروات والعبث بالمال العام من قبل أكثر الحكام وحواشيهم ولا هو التطرف في دعم ثقافة التحلل والمجون ولا هو التطرف العلماني في التحرش بالإسلام دين الأمة وبدُعاته واستعداء النظام المحلي والدولي عليه، وإنما التطرف الذي غدا الشغل الشاغل للقوى الدولية والحكومات المحلية والاتجاهات السياسية والذي كثيراً ما يتعمد الخلط بين مجموعات التطرف والعنف محدودة العدد وبين التيار الوسطي الرئيسي في الحركة الإسلامية، تيار الاعتدال، تيار الديمقراطية الإسلامية، التطرف المعني اليوم هو فقط التطرف والإرهاب باسم الإسلام، وذلك ضمن حملة شاملة مركز قيادتها: الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وجملة مؤسسات الدهلزة الصهيونية المتحكمة في دوائر الإعلام والقرار في الولايات المتحدة ويمتد أخطبوطها بعد ذلك في أرجاء العالم بقدر امتداد النفوذ الصهيوني والأميركي، وذلك في خلط متعمد ومركز بين الإسلام والمجرى الرئيس لأمته وحركاته وبين تلك الجماعات المتشددة، خلط خطير يهدف إلى خلط أشد بين الجهاد الدفاعي المشروع الذي تقوم به حركة التحرر الفلسطيني بجميع فصائلها الرئيسة وبين الإرهاب، خلط بينه وبين ما قامت به وتقوم جماعات نادت عن المجرى الرئيس من أعمال عنف هوجاء حمقاء ضد كل من تعتبره عدواً أو متواطئاً معه من حكومات ومن أناس عاديين لا صلة لهم بالسياسة أصلاً من مثل ضحايا 11 سبتمبر/ أيلول 2001 والعاملين في سفارتي أميركا في شرق إفريقيا فمعظمهم أفارقة مساكين معظمهم مسلمون وكذا سائر وقائع الإجرام التي اقترفت خلال السنوات الأخيرة وآخرها ما حدث في المملكتين العربية السعودية والمغربية.
وكانت الغالبية الساحقة للضحايا مواطنين عاديين غير مسيسين أصلاً. يبدو أن جماعات التطرف أخذت تعتبر الأمة كلها والعالم قد تترس بهما الأميركان والحكام فلا مناص من إهدار دم الجميع! هروباً من التسليم بالفشل إلى فشل أعظم: ويبدو أنه بعد أن تمكنت أجهزة الأمن في مصر من حسم أمر تلك الجماعات لئن راجع بعضها المسيرة الدموية التي خاضها فراجع نفسه وتاب لا اقتناعاً منه بعدالة الدولة التي حاربها وإنما بفساد المنهج الأهوج الذي سلكه ـ فإن البعض الآخر ـ بقيادة الظواهري وهو المنظر الأكبر لهذه المسيرة الدموية الهوجاء التي أغرق الإسلام المعاصر في أتونها وقدم خدمات لأعداء الإسلام غير محدودة ومنها 11 سبتمبر ـ انطلق إلى الساحة الدولية متحالفاً مع بقايا الجهاد الأفغاني الذي كانت أميركا وحليفاتها العربيات تشجعه حتى إذا قضت منه وطرها شنت على حلفاء الأمس حملات دولية، فنصبت لهم الفخاخ في كل مكان لتصيّدهم، فوجدوا في أفغانستان وطالبان المأوى والحليف لتنطلق استراتيجياً دولية يائسة بائسة لمواجهة العالم، اليهود والنصارى، ومن ليس على فكرهم من المسلمين وهم الغالبية، فاستهدفوا حكومات غربية ومحلية وأزهقوا مئات من النفوس لا علاقة لها بحربهم، ودمروا ممتلكات وأشاعوا مناخاً من الرعب في العالم وموجة عارمة من العداء للإسلام وحركاته ودوله وأقلياته ومؤسساته ووفروا لكل من يتربص بالإسلام فرصاً للانقضاض عليه ودعاته ومؤسساته، وربطه ربطاً محكماً بالإرهاب وبكل ما هو بشع، وخطير على كل المنجزات الحضارية الإنسانية مثل السلم والتقدم والحرية والمساواة والديمقراطية والحوار والذوق الجميل. ومع شدة وقع تلك الأفعال واستغلال أعداء الإسلام لها حتى غشيت سماء الإسلام والمسلمين وظللتها بظلالها الداكنة من أجل عزل كل الإسلام والمسلمين وربطهما الربط المحكم بالإرهاب وهو جوهر الخطة الصهيونية التي أعلن عنها رابين وبيريز عقب انتهاء الحرب الباردة استبقاء لدور صهيوني في الاستراتيجيات الغربية، ومع ذلك فإن أيما دارس منصف للإسلام وحركاته لا يعسر عليه أن يتبين الألوان الحقيقية وسط هذا الضباب والقيام بفرز واضح تتمايز معه الأضداد فيرى بكل جلاء:
- إن مبادئ الإسلام كما فهمت قديماً وحديثاً من قبل جمهور المسلمين وكما تدل عليها بجلاء نصوصه الثابتة في الكتاب والسنة وكما طبقت عبر تاريخ طويل لا تقدم سنداً للرؤيا الأحادية الحرفية الضيقة التي روج لها الخوارج القدامى والمحدثون من أنصار جماعات التطرف. الإسلام كما فهم وطبق من جمهور المسلمين لقرون طويلة يقدس الروح البشرية ويعلي من كرامة الإنسان من حيث هو إنسان ويعطيه حقوقاً ثابتة بذلك الوصف، تضمن حقه في الحياة والحرية في اختيار عقيدته وتقرير مصيره. الاعتقاد محله القلب ولا سلطان عليه لأحد إلا الله والحساب عليه عند الله، فلا سلطان للدولة على نوع اعتقاد الناس وما يسلكون في بيوتهم وما ينتهجون من أساليب لتنظيم أحوالهم الشخصية من زواج وطلاق ونفقة وما إليه، وفيما يختارون من مناهج لتربية أطفالهم وما إلى ذلك من خصوصياتهم، وفي القرآن توجيه للنبي واضح في التعامل مع اليهود الذين كانوا مواطنين في دولة المدينة حسب قاعدة «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) فهم أحرار في الاحتكام في أحوالهم الشخصية للإسلام أو للنظام القانوني الخاص بهم.
فكل ذلك يمكن أن يقبل أكثر من نظام قانوني، خلافاً للدولة الغربية التي تعتبر القانون تعبيراً عن إرادة الدولة فتقصر مواطنيها على نظام قانوني واحد حتى في تنظيم أحوالهم الشخصية. كما أن غياب تمأسس الدين في مؤسسة رسمية تنطق باسم السماء أفسح المجال واسعاً أمام حرية الاجتهاد بما ولّد حركة فكرية وفقهية وفلسفية نشطة طرحت على المسلمين فيضاً من المذاهب والفهوم يختارون منها ما شاءوا بحسب ما يرتضيه ضميرهم الديني ويبقى للفهم الذي ارتضته الغالبية الحق في تنظيم الشأن العام للناس تاركاً للناس حرية تواصل الحوار والجدل والاختيار.
وهو ما وفر - زمن ازدهار حضارة الإسلام ـ تعددية واسعة في الحياة الإسلامية اتسعت للمسلمين على اختلاف اجتهاداتهم ومدارسهم ولغير المسلمين مهما اختلفت عقائدهم ونحلهم. وكان ذلك من أهم ما امتاز الحضارة الإسلامية أنها حضارة الحرية والتعدد فلم تضق بمذهب إسلامي أو غير إسلامي. ولايزال العراق وهو أخصب أرض ازدهرت فيها حضارة الإسلام يمثل فسيفساء من الأعراق والمذاهب الإسلامية والديانات حتى الإحيائية منها مثل اليزيدية.
ولم يشهد التاريخ أن طائفة مسلمة أو غير مسلمة استهدفت من قبل الخلافة بالاستئصال. وهو ما يؤكد أن التطرف قديماًَ وحديثاً هو شذوذ عن مبادئ الإسلام وعن المجرى العام لتطبيقه وحضارته، إنه ضرب من التخلف وضيق في الأفق وحرفية في الفهم لا يتسعان لهذه الرحابة التي جاء بها الإسلام والتي استوعبت كل الاختلافات والاجتهادات فتعايشت كلها في وئام وأسهمت كلها في إثراء حضارة الإسلام أيام ازدهاره.
فكانت بغداد وقرطبة والقاهرة وشيراز وساراييفو وغيرها من حواضر المسلمين، تذكر بلندن وباريس وفرانكفورت ولوس أنجليس من جهة ما تزخر به من آداب وعلوم وفلسفة وتجارة، فضاء قد اجتذب إليه أرفع الكفاءات من أقطار الأرض على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم. وتلك هي الحضارة: فضاء رحب يجتذب أرفع الكفاءات مقابل التطرف والتخلف: ضيق في النظر وعنف في المسلك طاردان لكل ما هو جميل وكفء، وذلك بصرف النظر عن نوع المذهب والمرجعية لكل من التحضر والتخلف.
- إن جماعات التطرف والعنف لا يمكن إلا أن تكون محدودة العدد والأثر ولن يكون لها من مآل غير ما كان لها في مراكزها الأصلية في مصر، إن معظمها في مصر والجزائر قد فقه الدرس وأقدم على التوبة في شجاعة والبقية لجت في العناد مستفيدة من أزمة الحكم المستفحلة ومن الظلم الدولي الغاشم ومن بقايا من فكر التشدد مبثوثة في جوانب من الثقافة الإسلامية، ولكن الفطرة التي فطر الناس عليها لا تأنس للتطرف ولا تطيقه ولأن تلك الجماعات عاجزة عن بناء شيء لأنها قوة غضب وهدم لا قوة بناء وذلك بسبب ضيق أفقها فهي لا ترى في الإسلام غير وجه واحد، عاجزة أن ترى شيئاً خارجه فتكفره وتنفيه، ولأنها عاجزة عن نقل قناعاتها إلى جمهور واسع فما يبقى لها من سبيل غير العنف، ولذلك كثيراً ما تراها تمثل الوجه الآخر للأنظمة التي تزعم أنها تقاومها، فهل مقولة الفسطاطين المنتزعة من سياق صحيح هو الحديث عن الوقائع التي تسبق قيام الساعة والمنزلة في غير مكانها، تختلف كثيراً عن مقولة الخير والشر: معي أم مع الإرهاب؟ إن التطرف والعنف رد فعل فاسد عن مشكلات حقيقية. وما لم تعالج تلك المشكلات الحقيقية فتنصلح العلاقة بين الشعوب والحكام في اتجاه اقتراب الدولة من المجتمع في فكره ومصالحه ومطامحه، وما لم تنصلح العلاقات الدولية في اتجاه قدر من العدل والحد من نزوعات الهيمنة ودعم الظلم الصارخ في مواقع شتى مثل فلسطين والشيشان فسيظل التطرف والعنف يجدان أرضية مناسبة باعتبارهما استجابة غضبية واندفاعة لا تحتاج إلى كبير عناء في التأمل والتفكير والتربية والتنفيذ.
ولأن التطرف والعنف بديلان عن الرفق محدودا الأثر مجافيان للفطرة وللمجرى العام للأمة ولحركات الإسلام الصحيح فإنه لا مستقبل لهما، وهما لا ينتعشان إلا في مناخ الأزمات لتنبيه العقلاء إليها، ومع ذلك يمكن أن يفسدا كثيراً ويضيعا جهوداً وطاقات كبيرة ما لم تتجند كل طاقات العقلاء لمقاومة هذا البلاء ضمن معالجات شاملة لا تقف عند الظواهر والمعالجات الأمنية وإنما تغوص إلى الأسباب والجذور فتأتي عليها. إن التطرف في الفهم والعنف في فرضه جديران بالإدانة والشجب لا بالاعتذار والتسويغ، ولكنهما ككل الظواهر الاجتماعية المعقدة حريّان بالدرس والتحليل للوقوف على الأسباب التي تدفع شباباً متعلماً تعليماً راقياً أحياناً وعلى استقامة والتزام ومكانة اجتماعية واعدة غالباً لماذا يلقي بنفسه في هذا الأتون؟ إنها طاقات ثمينة تُدمَّر وتُدمِّر غيرها؟ لماذا؟ لا مناص من البحث ووضع المعالجات المناسبة المكافئة لتعقّد الظاهرة.
وفي كل الأحوال من واجب العلماء والدعاة أن لا يسمحوا للتطرف والغلو أن يختطفا الإسلام وفيهم عين تطرف، جزء من الميثاق المأخوذ عليهم من فوق السبع الطباق. قال تعالى: «ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»
إقرأ أيضا لـ "راشد الغنوشي"العدد 3226 - الخميس 07 يوليو 2011م الموافق 05 شعبان 1432هـ