تمنحك الكتابة الدائمة فرصة النظر إلى العالَم بشكل مختلف. هذا الاختلاف يكمن في الاطلاع على اهتمامات الناس الحياتية المتباينة. فقد أثبتت التجربة لي (ولغيري أيضاً) أن الأمر الذي لا يستحوذ إلاَّ على 2 في المئة من اهتمامك وتفكيرك يكون محلّ عناية لدى آخر غيرك بنسبة قد تصل إلى 90 في المئة. والقضية التي ترقِّمها أنت كسادسة القضايا بالنسبة إليك والتي لا تمنحها وقتاً كافياً لحلحلتها، هي عند غيرك أمّ القضايا كلها بل وأجلُّها.
فاهتمامات البشر تتكوَّن طبقاً لظروف حياتهم ونِعَمِها وبلاءاتها، وهي التي تحكمهم كما تحكم جغرافيا البُلدَان سياسات الدول. فالنعمة هي كالبلاء في تقدير الفِعل الذي يقوم به الإنسان تجاه ما يلقاه ويواجهه، مع فارق نوع الفِعل ومداه. وقد تكون النعمة مدخلاً لجلب البلاء إذا أسيئ التعامل معها أو استخدامها، وقد يكون البلاء أيضاً مدخلاً إلى نعمة وفيرة إذا أحْسِنَ التعامل معها، واستولد الأمل من بين فرث قسوتها ودَمِ مرارتها، وهكذا دواليك.
عندما أذهب إلى مكان عام لأيّ مناسبة كانت، أسمع من هذا وذاك مشاكل وقضايا لا تحصَى، قد يراها البعض صغيرة لكنها عند أصحابها بحجم الدنيا، فتنسيك أصل المناسبة التي أنت بصددها. عندها تكتشف أن كلَّ الهموم والقضايا في هذا الكون هي ثقيلة وكبيرة في ذات الأوان طبقاً لحضورها بين البشر، وأن شواغل الناس مختلفة بعدد اختلاف وجوههم ومشاعرهم. حينها تتذكر ما كان يقوله الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور بأن السيميائيين اكتشفوا أثناء بحثهم عن الذهب كثيراً من الأشياء الأكثر نفعاً من الذهب ذاته.
والحقيقة أنك تكتشف ذلك فعلاً، حتى لكأنَّ الشأن السياسي الذي يتلبَّد بك بسبب أحداث الداخل والخارج قد أصبح هامشاً في الشعور لديك، ومشاكل الناس هي بؤرة في الشعور. الأكثر من ذلك أنك عندما تكتب عن إحدى الحالات التي تحسبها فردية وخاصة ووحيدة، تكتشف لاحقاً أن العديد من الناس يشتركون في مأساتها أيضاً، لكن الأقدار لم تسنح لك أن تلتقي بهم، وبالتالي فهي لا تقل عن كونها مشكلة بحجم الظاهرة.
في غير مَرة وبعد أن كنتُ أكتبُ مقالاً حول قضية إنسانية/معيشية/اجتماعية مُحددة كنت أتلقى اتصالات هاتفية، أو أرى تعليقاً في بريدي الإلكتروني كصدى لها، معطوفاً عليه بحزمة من الآراء أو الاقتراحات التي لم تكن تخطر على بال الكاتب، والتي تصلح أيضاً لأن يقرأها المسئولون المعنيون بتلك المشكلة لكي يجدوا فيها مدخلاً للإجابة على سؤال عصِي أو مُؤجّل، ويُحِسّ بها الناس العاديون من العوام فيُعزِّزوا فيما بينهم روح التراحم والتَّواد حتى ولو على مستوى السؤال الصرف.
مَنْ كان يشعر بما يُعاني منه مَنْ كانت أمّه بحرينية أباً عن جَد، ووُلِدَ وتربَّى ونشأ في البحرين، ودَرَسَ في مدارسها وتكوّنت علاقاته الشخصية والعلمية والعملية ونظام المصالح الخاص به فيها طيلة أربعين سنة خلَت، لكنه وفي الوقت نفسه محرومٌ (هو وإخوته من الذكور والإناث على حد سواء) من الخدمات والقروض البنكيَّة والإسكانية (وحدة سكنية/قسيمة/ قرض/ شقة) ومحروم من البعثات الدراسية في الداخل والخارج، فقط لأن أباه يحمل الجنسية السعودية؟ الأمر الذي جعلهم متأخرين عشرين سنة وهم يُكابدون في بناء مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، في الوقت الذي يجدون مَنْ هم في أعمارهم وقد مضوا في بناء مستقبلهم.
ومَنْ منا أحَسَّ بما يعانيه مريضٌ بالفشل الكلوي من معاناة الغسيل الذي يجريه ثلاث مرات في الأسبوع بمشوار لا يقلّ عن ثماني ساعات في كلّ مرة، أو أحسَّ ما يعانيه ذووه من معاناة مادية أو نفسية؟ فهل فكَّر أحدٌ منا في أن يتبرَّع بأحد أعضائه التسعة الصالحة للمَنح حين وفاته (أو قبلها حتى) لكي يُنقذ مَنْ هو أبقى منه أو يُساويه في الحال، لتنطبق عليه الآية الكريمة الثانية والثلاثون من سورة المائدة «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا».
ومَنْ منا خفَّف من حالِ أبٍ يحمل ابنه المعاق على هَوْن من على مقعده المتحرك وهو يضمّه إلى صدره ورجلاه تخطَّان الأرض وجسمه مُبرعمٌ ببثور الحُكاكة من كثرة الجلوس وقلة الحركة، ليضعه على أرجوحة للعب يتدلَّى عليها حِيناً من الوقت لإمتاعه من غمِّ المرض وقتل الوقت، في الوقت الذي يرى بالقرب منه أطفالاً أصحَّاء يتقافزون حوله كالخيل تعدُو القَفَزى فيتمنى لو أن عنده ما عندهم حتى ولو لساعة واحدة. هذه الأشياء أكثر وقعاً في النفس لأنها تلامس نواة الإنسانية ووعاء الضمير. فأقرب موارد العدل القياس على النفس كما كان يقول جمال الدين الأفغاني.
باعتقادي أن أرواح البشر بحاجة فعلاً إلى رياضات من هذا النوع من الإحساس. فليس الأجساد التي تحتاج فقط لرياضة المشي أو الهرولة لكي تبقيها رشيقة القوام؛ وإنما الأرواح كذلك. فبرهة من التفكير، وقليلاً من المبادرة في العمل تجاه مثل هذه النماذج الإنسانية كفيلة بأن تقضي على آفات أرواحنا التي جُبِلَت على الاستئناس بنظرائنا في الخلق
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3225 - الأربعاء 06 يوليو 2011م الموافق 04 شعبان 1432هـ
اولويات
استاذنا العزيز كل الامور من سياسة واقتصاد وعلاقات مهمة لدي الفرد ولاكن هناك اولويات ما معناة اذا كنت صاحب دخل جيد وكل الخدمات البلد توفرها لي فطبيعي بتكون الامور السياسية في المرتبة الثانية لاكن شوف الوفاق تركت الامور المعيشية والخدمات وتجري وراء السياسة لامور انت تعلمها
شكرا لك يابوحميد وما انا الذي وصل بي العمر عتيا
فعلا انا واحدا من هؤلاء الذين تمر الايام والسنون ولا احد يسأل كيف حالك يا بن بني آدم واذا رأوك صدفة فى غير مكانك سألوك اين انت يا هذا؟ لم نراك مذ زمنا طويلا وكأنه ليس لي بيت وحتى لو كان طابقا على انفاسي من قدمه وحجرة متهالكة لكنها بالقلب تتسع لمن تستضيفه هذه الغرفة المتهالكة وها انا بعد إن جبلت روحى وأنفاسي بقسوة الحياة التى شعرت بلا معنى لها بعد ان أوصدت جميع الابواب حولي للعثور على مهنة لا بأس ان كانت دون تخصصي الحامل فيه شهادة الماجستير وإن كانت نجارة او حدادة فمقبولة لي لكسر الملل
الأرجوحة
على الرغم من اهتمامي هذه الأيام بالشأن المحلي بنسبة 100 % ، إلا أني تسمرت أمام هذا المقال الإنساني لبرهة من الزمن وسمحت لخيالي أن يصورني وأنا أراقب الولد المعاق وهو معلق بالأرجوحة وكأن الزمن قد توقف ووجدت أن الحياة فعلا تستحق أن أقوم ببعض هذه الرياضات الذهنية الروحية لأقدر النعمة التي في يدي .
شكرا كثيرا أخي الكاتب