الارتهان للشكل، ارتهان لفخ. الأشكال تقدِّم ما تريده. الآخرون معنيون باستقبال وتلقّي ما يريدون.
الشكل ليس حجّة.
وفي الشكل عدم ماثل، حين يبلغ مريدوه حدّ الهوس بإقامة مدن وحكومات ودول.
في المضمون وجود ممتد. سعة من الخيار في تشكل ملامح ذلك الوجود.
الشكل في تجربتنا المزمنة والمكرورة، ملاذ لا نجيد سواه. وموئل وإن لم يحصن أرواحنا ووجودنا؛ إلا أننا في العمق من التوق إليه، والانحياز إلى سرابه!
ربما يكون الشكل مدخلاًَ لأمم تنهض من رمادها فتبدأ منه؛ تعويضاً عن الغائب من مضمونها بفعل حروب وركام هزائم؛ ومنه تبدأ هندسة الطريق إلى المضمون وقيمته ومنجزه.
والشكل في كثير من صور حياتنا سقم. خادع مذل في إبهاره. الشكل غراب صباحاتنا لفرط الإحباط والصدمات. نفتقد الروح.
الروح باتت في عزلتها وبرزخها الأكيد.
وأسير الشكل يبحث عن تلؤلؤ روحه في عتمة.
الواثق من معناه، المؤسس لما بعده تتلألأ روحه من اختبار العتمة.
لا عرش للشكل. الشكل لا يظل مهدداً فقط بعوامل التعرية. تعرية الزمن وتعرية رصانة المفاهيم والرؤية. إنه مهدد بعوامل من داخله. مقتله في هشاشته وانعدام الروح فيه؛ وخصوصاً حين يحضر بوهم طاقة وقدرة وسطوة القضاء والقدر في تجيير مقرف لا يغفل عنه!
ولا رئة للشكل.
إنه يتنفس خارج نفسه.
لا ضوء له. يرضع من العتمة.
رضاعته ترهقه بالفائض منها.
لا فطام له. فطامه تعميق لعدمه!
والشكل نافذة لا تطل على شيء.
نافذة تطل على نفسها؛ تماماً كالشكل يطل على نفسه.
وفي الشكل ممعنا في غروره، تصرخ حتى الأشياء: أنهكتنا بنتانة وهمك. عرشك من زبد وسراب. لسنا أسرى العدم. محاصرون بما يكفي. نبحث عن سبل مكتظة بالمعنى وأبوته.
والشكل في الكتابة - عربياً - مأزق له امتداداته عبر فضاء وهمي، يتيح له حالاً من «الببغائية» المكرّسة والماثلة.
التقليد «عبْد الموقف» لا سيده.
تقليد في أسوأ صوره وشواهده.
تقليد لا يقول شيئاً، ولا يقدم قيمة؛ بل العكس، يؤكد هشاشة الشكل من جهة؛ وتيه المعنى وانكشاف الرخاوة من وراء كل ذلك من جهة أخرى.
ثم إن كل هذا الاستهلاك الذاهب في مصلحة محطات الصرف الصحي، والصرف من خريطة الوجود الراهن؛ يكشف إفراطاً في الانحياز للشكل والعدم.
إفراطاً في حقيقة اللامبالاة، واستئناساً بمضمون «التنْبلة»، واقتناعاً بضرورة الهامش وأهميته!!!
حين تصل مجموعة من الأفراد إلى هذا المستوى من القناعة المطمئنة بالنسبة إليها؛ فتلك نذر الكارثة. ماذا عن تجاور وارتباط تلك القناعة بمجتمعات بأسرها؟ علينا لحظتها أن نعيد النظر في مفهومنا للكارثة؛ فثمة ما هو أبعد وأكثر هولاً من ذلك.
لم يؤد إلى هيمنة الشكل إلا فرض القوة.
حين تكون القوة في شذوذها ونهبها ومصادرتها حكَماً وأباً «روحياً» فلا حدود بعد الشكل! يقف عندها ومنها يستلهم مداه المخبأ في خزائن أهل السطوة.
كل شكل مهيمَن عليه، نتاج أزمنة من العُقد والسياسات التي تفتح خزائنها لتغييب وعي الناس ومداركهم وخياراتهم وتأثيرهم وحقهم في خلق المضامين وتأصيلها واجتراحها.
حتى الأفكار الشائعة وهي لا تستند إلى عمق معرفي، تثير حالاً من سيادة الشكل في الوسط الذي تروج فيه. تكتسب هيمنتها وأهميتها من انسياق البشر وراء قيمتها ومضامينها الزائفة والمبتذلة. يحدث تأصيل لتلك الأفكار - مع مرور الزمن - وتصبح من بدهيات وقتها ومعرفتها، وصورة ماثلة وضرورية في مرجعيتها. معرفة ومرجعية عمادها الوهم، والإبحار في ظلمات مجهول وقضاء وقدر مصطنع ووهمي.
«معرفة» كتلك تظل في أوهن صور جهلها وعدمها!
أيها الشكل: لا نار تنشط دمنا في حضرة ثلجك.
نريد أن نصحو مبكرين للذهاب إلى العقوق الجدير بنا في غيبوبتك.
لكأن الشكل لعنة.
لكأن المضمون رفاهية في النعم
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 3225 - الأربعاء 06 يوليو 2011م الموافق 04 شعبان 1432هـ