كان ذلك قبل عشرين عاماً. أخَذه جَدُّه إلى أرض مُقفِرَة، تتناثر عليها قبورٌ بشواهِد بالِيَة. بعض تلك القبور ذات تربة ندِيَّة تدلُّ على أن الموافَى به حفرته للتَّو قد سَكَتَتْ أنفاسه، وأخرى بتربة خَشِنة تيبَّسَت عليها خرمشات الريح فَذَرَتها قاعاً صَفْصَفاً. أومأ الجدُّ بيده نحو أحد القبور العتيقة المهترئة وقال: ها هنا يرقد أبوك. ذكَّرَته لفظة الأبوَّة المفقودة منه بمشوار حياته المنصرف حين كانت مشاعره وأحاسيسه تحنُّ إلى نَفَسِ والدٍ يكون له مثلما لغيره.
هذا المشهد حَصَل فعلاً لأحدهم ولم يكن من خيال الدراما. والأهم من ذلك هو أن هذا المشهد واحدٌ من آلاف المشاهد التي تصيب البشر. تذكَّرتها وأنا أتفحّص صُوَر المتفوقين دراسياً في صُحُفنا. بعضهم كان يُهدي تفوّقه لأمه دون أبيه أو العكس. وبعضهم كان يهديه إلى جدَّيْه أو خالته أو عمّته. تتساءل: هل أسباب ذلك تتعدَّى طلاق الوالِدَيْن أم أن الأمر لا يتعدَّى: سقط سهواً، لتتأكَّد لاحقاً بأن الأمر به جانب إنساني كبير حين تقرأ إهداء بعض المتفوقين/ المتفوقات وهو مُرسَلٌ بمزيد من الخشوع إلى روحٍ غائبة هي اليوم عند بارئها.
لم يكن اليُتم يوماً عائقاً أمام تقدُّم البشر وارتقائهم أعلى درجات العلم والتميّز. يذكر التاريخ لنا نماذج لعُظماء عاشوا أيتاماً. نبي هذه الأمة (ص) عاش يتيماً. وابنته فاطمة وحفيداه الحسن والحسين واختهما زينب عاشوا جميعهم أيتاماً. وعاش أنس بن مالك يتيماً. وعاش محمد بن ادريس الشافعي يتيماً. وعاش الفيلسوف المتصوف والأديب المتميّز أبو حيان التوحيدي يتيماً. وعاش عالِم الفلك الكبير الحسن علاء الدين بن الشاطر يتيماً.
وقد حدَّثتنا كتب السِّيَر أن الأحنف بن قيس التميمي، نشأ في قومه يتيماً، ليس في إنسان عَيْبٌ خَلْقِي إلاَّ وله منه نصيب، وكانت أمّه حبيّ بنت قرط أخت الأخطل ترقِّصه في حضنها عندما كان الأحنف طفلاً وهي تقول: والله لولا حَنَفٌ برجله، وقلَّة أخافها من نسلِه، ما كان في فتيانكم من مثله. لكن هذا الأحنف اليتيم والمُعَاب في حَنَفِ رِجله صار داهية العَرب وسيداً في البلاغة، وكان عَلَماً في الأخلاق والشجاعة والحلم حتى قالوا (أحلم من الأحنف).
اليوم مِيْزة أولئك المتفوقين/ المتفوقات هي أنهم نالوا شَرَفيْن. الأول: نيْلهم العِلم وهو في الثريا، والثاني: أنهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه ورِجلهم ترفل في اليُتم بكل ما فيه من تعب مادي ونفسي يتكرّر بتكرار مشاهد الحياة الطبيعية حين يرون حنانَ أبٍ/ أمٍ على ولدها/ ابنتها، سواء في العالَم الواقعي أو الافتراضي، فضلاً عن ضغوط المخيال الذاتي لهم، وهو إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على قدرتهم الاستثنائية على ابتلاع المأساة التي هم فيها دون أن يُؤثر ذلك على سبقهم نحو العلم والعمل والتميُّز، حالهم حال نماذج التاريخ الناصعة والجليّة.
لذا فإن تفوّق هؤلاء هو تفوقٌ مُضاعَف. وعلى الدولة أن تميِّزهم عن غيرهم من المتفوقين سواء في البعثات الدراسية أو بطريقة الاحتفاء بهم. وحسناً فعلت المؤسسة الخيرية الملكية حين أقرَّت ضمن خدماتها الجوانب التعليمية عبر توفير قيمة الحقيبة والزي المدرسي للأيتام من المرحلة الابتدائية وحتى الجامعية، وتكريم المتفوقين منهم دراسياً، وتخصيص بعثات دراسية لهم ولأمهاتهم حتى نيل درجة الماجستير، والتعاون مع الجامعات والمدارس الخاصة لتوفير مقاعد مجانية سنوياً للطلبة المكفولين من قبل المؤسسة. كل ذلك أمرٌ حَسَن وطيِّب.
لكن ذلك لا يعني ألا نقول للوزارات المعنية بأن تقوم بما يُضيف على ذلك وبالتحديد في المسألة الإسكانية. فكثير من الأيتام يفتقرون إلى بيوت تؤويهم وهم في مرحلة الطفولة، بل الأكثر من ذلك، فليس الحال مقتصراً على كَوْن أولئك الأيتام يمتلكون سَكَناً خاصاً وهم في ذلك العمر، بل إنهم سيحتاجون له (السكن) عندما يُراهقون للاستقلال المالي والحياتي ويُقبلون على الحياة، وهو ما يتطلب شملهم بتلك الرعاية حتى وهم شُبَّان أيضاً لتحقيق الأمان النفسي والمادي، خصوصاً وأن ضغط اليُتم قد جعل من أحمال الحياة تتوالَى عليهم بدون توقف، فما كان يبذله اليتيم في عُمر العشرة أعوام يقوم به غيره داخل الأسَر الطبيعية والمتكاملة الرعاية في عمر العشرين.
وبالتالي فحين يصِل بهم العمر إلى بدايات العقد الثاني يكونون في منتهى الحاجة التي استغرقوا جهدهم النفسي والذهني والعضلي في سدِّها وهم في عمر أبكَر. في كل الأحوال، فإن الحاجة للنظر إلى هؤلاء الأيتام ستكون أكثر إلحاحاً عندما نرى صورهم على قوائم المتفوقين، فقد نالوا التميّز من وسط المأساة، وهو ما يجعلهم استثناءً في التقدير والإنسانية
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3220 - الجمعة 01 يوليو 2011م الموافق 29 رجب 1432هـ
اليتم لا يضيع
دائما اليتيم ما يضيع في هذه الحياة لأن الله يعوضه عن يتمه .. يضيع في هذه الحياة الأبن الذي يعيش مع عائلة مفككة او اب بخيل او متسط لا يرحم مثل هذا الأبن لا احد يساعده لأن الناس ينظرون الى وجود اباه .