العدد 3220 - الجمعة 01 يوليو 2011م الموافق 29 رجب 1432هـ

وعي مفقود في الخبرة الإسلامية المعاصرة

جمال سلطان comments [at] alwasatnews.com

.

ليس عيباً أن نعترف نحن الإسلاميين بمشكلات في وعي النهوض ووعي الصحوة الإسلامية الجديدة، وأن نعمل على تدارك الأمر، ولكن العيب؛ بل الخطر أن نتجاهل هذه المشكلات، أو أن نكابر في إنكار وجودها ونتغافل عنها، وعندما يتأمل الإنسان - خاصة المتابع - تطورات وتحولات الخبرة الإسلامية في السنوات الماضية؛ يرى هناك خللاً كبيراً في وعي الإسلاميين بمساحة التحدي الذي تواجهه الأمة والأولويات التي ينبغي أن يولوها الاعتبار، ومثل هذا الوعي المفقود بمساحة التحدي ومعها الأفق المستقبلي وما يمكن وصفه «بالبعد الاستراتيجي» لحركات وتيارات ضخمة تعمل لتأسيس بنية اجتماعية وحضارية جديدة للأمة، تنهض بها من كبوتها، وتحملها إلى ريادة البشرية من جديد، أقول: عندما غاب مثل هذا الوعي والإدراك؛ غابت معه بطبيعة الحال الآليات المنطقية التي يمكن أن يستخدمها الإسلاميون لتحقيق أهدافهم المشروعة والكبرى، ولذلك وقع الإسلاميون في سلسلة متتالية من تفريغ الجهد في الهدر أو الأعمال والأفكار ضعيفة الجدوى والعائد الدعوي والاجتماعي والسياسي، كما عرفوا صدامات ضخمة في مسيرة عطائهم، صحيح أن بعضها فرض عليهم؛ ولكن المؤكد - بأمانة كاملة - أن الكثير من هذه الصدامات قد اندفعوا فيها أو دُفعوا إليها بفعل غياب ما قدمنا، وخاصة أن غياب هذا الأفق يغيب معه أبعاد أخرى، مثل: التوازن النفسي في السلوك السياسي، وضبط الواقع الدعوي واهتماماته الفعلية والمستقبلية، والقدرة على تحليل مفردات هذا الواقع، ثم نسج منهجية العمل وفق هذا التحليل، ولذلك يفجع المرء كل حين بمواقف شديدة التناقض من الفصائل الإسلامية، حيث تجد بعضها بعد مسيرة طويلة من المواجهات والصدامات والمواقف الفكرية والفقهية الخطيرة؛ تعود - ليس فقط لتعديل أو تصويب بعضها - وإنما لنقض البنيان السابق برمته، والانتقال إلى نقيضه، وبزاوية شديدة الانفراج بمئة وثمانين درجة - كما يقول الرياضيون - وهذا الأمر لا يعني سوى أمر واحد، هو العمل في ظل الوعي المستقبلي المفقود، وبناء الرؤى العملية والدعوية على الخيال أو العواطف وحدها والانكفاء على الذات ورؤية العالم الخارجي من خلال هذا الانكفاء الذاتي وليس من خلال ما هو عليه العالم في الواقع والحقيقة، حتى إذا ما ارتطم الرأس بالصخر واستفاق من الغفلة؛ وجد أن العالم غير العالم، والموقف غير الموقف، والطريق لم يكن هو الطريق، والنتيجة - في النهاية - كانت كارثة.

وإذا كان هذا الخلل يطول الوقوف معه إذا أردنا الاستقصاء فيه؛ إلا أننا في هذه الأسطر المحدودة لا يسعنا إلا أن نشير إلى بعض أطراف المشكلة، وبقراءة عفوية لم نقصد فيها الأهم؛ وإنما ما يرد على الخاطر، فعلى سبيل المثال: لم يولِ الإسلاميون الأهمية المناسبة إلى قيمة المؤسسات واستقلالها في بنية الدول والمجتمعات، وكان الاهتمام بالمواقف الفردية هو الأصل، أو القضايا ذات البعد الفردي والمباشر، في حين أن إصلاح المؤسسات هو الإصلاح الحقيقي الذي يؤسس لمستقبل أكثر إيجابية وأشمل أثراً وأكثر استقراراً، والمؤسسات أياً كان مجالها: سياسياً، أو اقتصادياً، أو اجتماعياً، أو قضائياً، هي الضمانة الحقيقية لصلاح المجتمع وتحقيق التوازن فيه وإشاعة أجواء الحرية والتأسيس للعدل، وعندما غاب اهتمام الإسلاميين بهذا الجانب؛ فقد فقدوا أحد أهم الأدوار التي تنتظرها منهم أمتهم ومجتمعاتهم لتأسيس نهضة حقيقية، وكانت النتيجة أن غاب البعد المؤسسي عن حياة الأمة، أو تحول إلى مسخ مشوه وشكلي للتضليل أو لإبراء الذمة.

إن مؤسسة القضاء - على سبيل المثال - هي قوام الأمم والمجتمعات، وضمانة الحريات العامة الحقيقية، وضمانة العدل، وضمانة المستقبل أيضاً، لأن من يبني بناء أو يؤسس مشروعاً حتى لو كان اقتصادياً؛ فإن إحساسه بوجود قانون مستقل وقضاة مستقلين ومؤسسة قضاء قوية ومستقلة، هو الضمانة الأكيدة له لكي يؤسس مشروعاً للمستقبل، خاصة لو كان مشروعاً جاداً سينفق عليه من عمره وماله سنوات قبل أن يظهر ثماره، والمدهش أن المؤسسات الدولية الآن تشترط لتقديم المنح والقروض للدول أن يكون هناك ما تسميه «الإصلاح القضائي» في صدارة مطالبها، وأنا لا أذكر على

الإطلاق أن كانت هناك معارك فكرية واجتماعية وإعلامية ذات شأن خاضها الإسلاميون من أجل الدفاع عن استقلالية القضاء ورجاله ومؤسساته، أو أن هناك مواقف فاصلة لتأسيس لبنية قضاء مستقل وجاد وراسخ، كان الذهن مشغولاً بعاطفية الدعوة إلى «تطبيق الشريعة « وإحلالها محل القوانين الوضعية، وهذا مطلب جوهري لأية دعوة إسلامية، لكنه لا يستقيم أبداً إذا كان يقوم على خواء وأعمدة منهارة ومتآكلة؛ بل إن الشريعة الإسلامية إذا قامت على قضاء غير مستقل ومؤسسات غير محترمة فإنها ستكون كارثة ومسخاً مشوهاً لفكرة الشريعة وإساءة لها في النهاية وليست إعلاءً أو تكريماً، وكان من نتيجة ذلك التجاهل المباشر أن دفع الإسلاميون في بلدان كثيرة ضريبة غياب هذه المؤسسة الخطيرة من أعمارهم وأرواحهم ودمائهم وأعراضهم الكثير، أما الخسائر غير المباشرة فهي أكثر من أن تحصى، بما في ذلك غياب الحريات العامة أو حتى انعدامها، ومن مثل الخراب الاقتصادي والفساد بلا حدود، ومن مثل تحطم معظم مشروعات التنمية إن لم يكن غياب خططها من حيث الأصل، وهذا كله مما يدفع ضريبته المجتمع بأسره وليس الإسلاميون وحدهم، لقد أهدر الإسلاميون - كما أهدر غيرهم - الكثير من الطاقات والجهود في معارك صغيرة، وأحياناً تافهة، وأحياناً أخرى وهمية وبلا أي أفق!، في حين أهملوا معركة فاصلة، مثل هذه المعركة التي أشرنا إليها.

على جانب آخر؛ أهمل الإسلاميون، واستخفوا كثيراً بالمؤسسة الإعلامية على اختلاف ألوانها وآلياتها، ونظروا إليها باستخفاف عجيب، وكان النظر إلى الصحافة أو التلفزيون محصوراً بين تصور أنها أوكار للماسونيين وشخصيات غامضة على صلات مشبوهة، وإما أنها من «الحواشي» التافهة في الحياة العامة التي لا قيمة لها، ولا يشتغل بها إلا التافهون وغير الجادين من الخلائق، هكذا كان التصور - وهو التصور الذي عايشناه ورأيناه جميعاً - حتى إذا ما دارت الأيام وتوالت الخبرات، واستنفذ الإسلاميون لياقتهم الذهنية والمالية والعملية في «النشاطات الكبيرة» في تصورهم؛ عادوا لكي يكتشفوا أنهم خسروا الكثير من معاركهم ومواقفهم أمام تيارات وشخصيات لا وزن لها اجتماعياً وشعبياً، ولكن وزنها الوحيد كان الثقل الإعلامي، واكتشفوا - متأخرين - أن الإعلام آلة جبارة، وأن الحدث الذي لا يولد إعلامياً لم يولد أصلاً مهما كان فيه من تضحيات ووقائع جسام، ووجدوا أن برنامجاً تلفزيونياً واحداً يمكن أن يحدث من الدوامات الفكرية والسياسية مئات أضعاف ما تحدثه مجموع خطب الجمعة في دولة بكاملها، واكتشفوا - ضحى الغد - أن الإعلام الذي استخفوا به هو ثاني القطبين اللذين تقوم بهما وعليهما الدول ونظم الحكم، خاصة في عالمنا الثالث، ووجدوا في النهاية أن الكثير من المعارك التي خسروها كان الإعلام سبباً رئيساً في هذه الهزائم، وفي مصر على سبيل المثال لم يكن في نقابة الصحافيين المصريين أكثر من اثنين أو ثلاثة من عدة آلاف من المنتسبين إلى عضويتها، واليوم عندما تراجع كشوف أعضاء النقابة تجد أن الإسلاميين أصبحوا بالمئات، ولكن متوسط أعمارهم بين الثلاثين والأربعين، أي أنهم من الجيل الجديد الذي اكتشف قيمة الإعلام وخطورته، والمدهش أنه عندما أعلن في المملكة العربية السعودية عن تأسيس رابطة جديدة للصحافيين ستكون بلا شك الخطوة الأولى لتكوين نقابة الصحافيين، تفاجأ بأن أحداً من المنتسبين إلى التيار الإسلامي لم يتقدم للمشاركة في هذا العمل المهم، وكأن الأمر لا يعنيهم أصلاً!

الظاهرة أيضاً تستطيع أن تراها في غياب اهتمام الإسلاميين بمؤسسات العمل الأهلي والمدني على خطرها وعظمها، مثل: المنظمات والجمعيات التي ترعى الشأن الثقافي، أو الشأن النسائي، أو قضايا الحريات العامة والحقوق، أو القطاعات المهنية مثل العمال والطلبة ونحو ذلك، إلا ما ندر، وأذكر - على سبيل المثال - أن مصر (ولها من التاريخ والباع في الخبرة الإسلامية الكثير على مدار قرابة قرن كامل) تجد فيها أكثر من خمس عشرة جمعية ومؤسسة تهتم بالحريات العامة رغم أنها لا تملك قواعد حقيقية لها في المجتمع، ومعظمهم يساريون وقلة ليبرالية، في حين أن الإسلاميين - على ضخامتهم وكثرة معاناتهم - لم ينشئوا جمعية واحدة تهتم بهذا المجال، رغم أنهم أولى الناس به واقعياً وعملياً، ويكن التحدث كذلك في هذا السياق عن غياب المؤسسات البحثية ومراكز الدراسات المتخصصة في السياسة والاقتصاد والاستراتيجيات وغيرها.

إن التحولات التاريخية للأمم لا تُبنى على العواطف وحدها، ولا على النيات الحسنة وحدها، وإن كانت تلك من شروطها الجوهرية؛ وإنما التحولات تؤسس لها، وتفجر طاقاتها، وتشحذ الهمم إليها جهود إنسانية متكاملة ومتماسكة ومتنوعة ومعقدة، قدر تماسك وتكامل وتعقد المجتمع الإنساني - أي مجتمع إنساني - ولعل المستقبل يحمل لنا مثل هذه الروح الجديدة، والوعي الجديد، وقد رأينا - بالفعل - بعض تباشيره في السلوك والوعي الإسلامي الجديد في غير بلد من العالم العربي

إقرأ أيضا لـ "جمال سلطان"

العدد 3220 - الجمعة 01 يوليو 2011م الموافق 29 رجب 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً