ليس من الصعب القول إن النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين قد تميز بانتشار السلفية التقليدية، مقابل السلفية الجهادية خلال النصف الأول منه، وإن بقي التركيز الإعلامي من نصيب الثانية، ربما لاعتبارات تبرير «حرب الإرهاب» التي لم تتوقف فصولها بعد، وإن تراجع حشدها الإعلامي عما كان عليه خلال مرحلة جورج بوش الابن.
هناك بالطبع ما يعرف بتيار السلفية الإصلاحية، وهو تيار له حضوره في بعض الدول العربية، بخاصة في السعودية وبعض دول الخليج، لكن صوته يبقى محدودا قياسا بالتيارين الآخرين، ولاسيما أنه يتعرض للملاحقة والتضييق، تماما كما هو حال التيارات الإسلامية الحركية الأخرى.
ويبقى أننا لم نتعرض هنا للتيارات الأخرى، وفي مقدمتها التيار الإخواني الذي بقي - رغم بعض التراجع - الأكثر حضورا في العالم العربي، على تفاوت بين بلد وآخر.
ما نعنيه بالسلفية التقليدية ابتداء هو ذلك المنهج الذي يركز على «التصفية والتربية»، بحسب تعبير عالم الحديث الشيخ محمد ناصرالدين الألباني الذي يركز اهتمامه على تصفية العقيدة وإشاعة فقه معين يقول إنه «يستند إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة»، مع تركيز أكبر على السنة.
وتعد مقولة «من السياسة ترك السياسة» واحدة من أهم مقولاته (أعني التيار)، في حين يدعو المسلم إلى طاعة ولي الأمر، «ولو جُلد ظهره وأخذ ماله»، (هذه إضافة على حديث مشهور في صحيح مسلم ضعفها الإمام الدارقطني)، مادام يأذن للناس بالصلاة، استناداً إلى مقولة ان هذا الطرح هو ما استقر عليه أهل السنة والجماعة.
من الضروري الإشارة هنا قبل إجراء عملية نقدية لهذا التيار، إلى أن هذا الانتشار الذي حظي به خلال السنوات الأخيرة لا يعود بمجمله إلى قدرته على الإقناع، أو إلى أرضية تتقبل وجوده في الواقع العملي، رغم أن بعض الناس قد يجده كذلك، أقله بعض الأوساط الأقرب إلى التشدد في التزام المظاهر الإسلامية (الشيخ القرضاوي يطلق على هذا التيار وصف التيار الظاهري).
نقول ذلك لأن عموم الناس يظلون أقرب إلى الفقه الوسطي غير المتشدد، في زمن لم يعد التشدد سهلا بسبب ثورة المعلومات وتعقيدات الحياة المعاصرة، مع العلم أن المذهب الذي يُعد هذا التيار صداه في الواقع (أعني المذهب الحنبلي) كان مذهبا محدود الانتشار طوال تاريخ الأمة، بينما كان المذهب الذي يتناقض معه في منهج الاستدلال (أعني المذهب الحنفي الذي يركز على القرآن الكريم ويقلل من أهمية الحديث)، كان الأكثر انتشارا في تاريخ الأمة.
يعود انتشار هذا التيار في جوهره إلى سطوة المال والسياسة أكثر من أي شيء آخر، وقد جاء ذلك نتاج تراجع ثقل الأزهر ومصر عموما في حركة التدين الحديث، مقابل حضور السعودية بمالها وسياستها، وهي ذاتها التي تتبنى المذهب الحنبلي أو الوهابي، أو السلفي التقليدي بتعبير أدق. وقد كان للمال السعودي دوره الحاسم في نشر أدبيات هذا المذهب في العالم العربي والإسلامي.
لكن السبب الأهم لانتشار هذا التيار إنما يتمثل في احتضان أكثر الأنظمة له من الناحية العملية، بخاصة منذ التسعينيات حتى الآن، أي منذ وقوع الانقلاب على الحركات الإسلامية المسيسة التي باتت خصم الكثير من الأنظمة (فضلا عن الولايات المتحدة) بعدما كانت حليفتها في مواجهة الشيوعية واليسار.
هكذا ينتشر هذا التيار بقوة دفع الأنظمة وأجهزتها الأمنية التي تريده عمليا في مواجهة السلفية الجهادية من جهة، والحركات الإسلامية المسيسة والأكثر ميلا إلى المعارضة من جهة أخرى، ويحدث ذلك عبر منحه امتياز النطق باسم الدين عبر المساجد، في مقابل مطاردة الآخرين والحيلولة دون تواصلهم مع الناس، وبالطبع عبر قوانين الوعظ والإرشاد وسائر أشكال التضييق الأخرى.
لتقييم دور هذا التيار في التأثير في واقع الأمة وحراكها من أجل النهوض، لابد من التذكير بالتحديات التي تواجهها، ومن ثم دور هذا التيار في التصدي لها.
التحدي الأول الأهم الذي نركز عليه أكثر من غيره، يتمثل في قضية الظلم والاستبداد، إذ تتميز معظم الدول العربية - وربما الإسلامية أيضا - بسيطرة نخب معينة على السلطة والثروة، وتراجع هامش الحريات ومشاركة الناس في صناعة قرارهم السياسي.
في هذا السياق تبدو مشاركة هذا التيار سلبية إلى حد كبير، فهو لا يكتفي بالوقوف ضد أي شكل من أشكال التعبير السياسي المطالبة بتعزيز الحريات والإصلاح والمشاركة السياسية، بل يقبل من الناحية العملية توظيفه أمنيا وسياسيا في سياق المواجهة مع من يحاولون الدفع في اتجاه التغيير.
ولعل مواقف التيار خلال ثورات تونس ومصر وليبيا أكبر دليل على ذلك، ولا حاجة لذكر الأمثلة، مع ضرورة الإشارة إلى أن نفرا من المنتسبين للتيار المذكور كانت لهم مواقفهم المشهودة لصالح ثورة الجماهير، من دون أن يتغير المسار العام لمواقف التيار.
في هذا السياق تستخدم مقولة «من السياسة ترك السياسة» لإقناع أبناء هذا التيار بمسارهم، مع العلم أنهم لا يتركون سوى السياسة المعارضة، أما المؤيدة فيمارسونها كل يوم عبر دعوة الناس إلى طاعة ولاة الأمر (ليس ولي الأمر فحسب)، مهما كانت ممارستهم ماداموا يأذنون بالصلاة، تحت زعم أن ذلك هو منهج أهل السنة والجماعة.
ويصل الحال حد تحريم كل ما من شأنه إزعاج الحاكم بما في ذلك المظاهرات، وصولاً إلى منع انتقاده في العلن على اعتبار أن ذلك مدخل للفتن (من أفضل ما كتب في نقد المقولات السياسية لهذا التيار هو كتاب «الحرية أو الطوفان» لحاكم المطيري أحد رموز السلفية الإصلاحية في الكويت ومؤسس حزب الأمة غير المرخص).
وبينما تستخدم قضية الخروج على الحاكم في سياق تحريمها بل تجريمها، لا يفرق التيار المذكور عمليا بين الخروج المسلح والنضال السلمي من أجل تعزيز الحريات ورفض الظلم والفساد وسرقة أموال الأمة واستعادة المرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع، وهو نضال أقرب إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منه إلى أي شيء آخر، كما لا يفرق بين التكفير والخروج وحقيقة أن الخروج لا يستدعي التكفير بالضرورة.
بل إن مقولات استئناف الحياة الإسلامية التي كانت متوافرة في تنظيرات آباء هذا التيار، كما في كتب الألباني القديمة، لم تعد موجودة عند هؤلاء، لأن الوضع القائم نهائي بحسب هؤلاء، وأن الحاكم القائم لا يختلف عمليا عن الخلفاء الراشدين والخلفاء الأمويين والعباسيين من حيث وجوب طاعته، حتى لو كانت مرجعية الدولة في عهده ليست إسلامية من الناحية العملية، وإن نص الدستور عند بعضها على أن دين الدولة هو الإسلام.
لا يتسع المقام هنا للرد على مقولة تحريم انتقاد الحاكم أو تحريم الاحتجاج السلمي على تصرفاته، لأن حشدا من الآيات ترفض ذلك: «لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم» (النساء: 148)، «والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون» (الشورى: 39)، وكذلك الأحاديث «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»، «إذا خشيت أمتي أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها»، «لتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا..»، فضلا عن أن مسألة الخروج المسلح كانت على الدوام موضع خلاف، بدليل موقف الحسين عليه السلام وعدد من الصحابة الذين واجهوا يزيدا يوم الحرة، وتأييد الإمام مالك وأبوحنيفة لخروج محمد بن النفس الزكية وأخيه إبراهيم على أبي جعفر المنصور.. إلخ.
لكن موقف علماء الأمة من هذه القضية (الخروج المسلح) كان مرده صعوبة التغيير، بل ربما استحالته في مواجهة الدولة الحديثة المدججة بأدوات القوة، وفي القديم كان مرده الخوف من الفتن والمزيد من القتل، مع العلم أن الأمة اعترفت بحاكم الغلب وصار بدوره ولي الأمر «واجب الطاعة».
وهنا نذكر أن ذلك كله قد تغير الآن في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات التي أتاحت تغيير حكام أذلوا البلاد والعباد عبر الاحتجاج السلمي، وخلال وقت قصير، وبعدد محدود من الشهداء.
خلاصة القول إن لهذا التيار دورا كبيرا في تشريع الاستبداد، بل تشجيعه من الناحية العملية، وصولا إلى تعبيد الناس للحكام، وإلا فما معنى أن يكون واجب الطاعة بمجرد سماحه بالصلاة، مع العلم أن الكيان الصهيوني يسمح للناس بالصلاة، بل بإنشاء حركات إسلامية أيضا، فضلا عن دور هذا التيار في حرب دعاة التغيير عبر تحريم العمل الحزبي حتى لو أذن به ولي الأمر (يروق ذلك لهذا الأخير بالطبع).
التحدي الثاني الذي يواجه الأمة يتمثل في الهجمة التي تتعرض لها منذ عقود - وربما قرون - من قبل الغرب الاستعماري. وفي مواجهة هذه الهجمة يبدو دور هذا التيار بالغ السلبية، فهو لا يكتفي بعدم المساهمة في المواجهة، بل ينتقد من يمارسونها على الأرض، وذلك بوضع الجهاد رهن إذن ولي الأمر، حتى لو نصبه الغزاة، كما في الفتوى التي أطلقها عبد المحسن العبيكان في الحالة العراقية، والتي تساوقت معها فتاوى أخرى صدرت من رموز التيار المذكور.
ولنا أن نتخيل هنا لو ركنت الأمة إلى مقولات هذا التيار في العراق على سبيل المثال ولم تواجه المشروع الأميركي، لوصل بهم الحال حد إصدار نسخة جديدة من القرآن الكريم تصلح لزمن العولمة والحداثة.
ونتذكر أن الغزو جاء بشعار إعادة تشكيل المنطقة، وبالطبع ليس سياسياً وجغرافياً فحسب، وإنما ثقافياً أيضا. ألم يقارنوا حربهم على الإرهاب بالحرب على الشيوعية؟! ونتذكر كيف وقف التيار المذكور ضد المقاومة وندد بها، ولم يفرق بين ما كان صائبا منها وما كان غير ذلك من استهداف للأبرياء غير المحاربين.
التحدي الثالث هو تحدي حمل الإسلام إلى الأمم الأخرى، وهنا تتبدى إشكالية هذا التيار في اختيار التفسيرات الأكثر تشدداً للإسلام في سياق الحياة اليومية ومعاملاتها ومظاهرها، الأمر الذي يحول دون انتشار أوسع للدين. ومثال ذلك التشدد في رفض الموسيقى مع أنها قضية خلافية، والموقف المتشدد من قضايا المرأة، فضلا عن البعد المظهري في سائر قضايا الفقه، من اللباس إلى الشعائر ذاتها.
يدخلنا هذا إلى تحدٍ آخر يتعلق بعموم حالة التدين ومستقبلها في الشارع العربي والإسلامي، حيث يميل هذا التيار إلى نشر تدين فردي طقوسي لا صلة له بروح الدين الفاعلة في حياة الناس اليومية (يتناقض مع السلوك في كثير من الأحيان)، الأمر الذي يهدد موجة التدين برمتها ويبشرها بحالة من الانحسار، لأن التدين الفاعل في حياة الناس والذي يتبنى قضايا العدالة والحرية هو الأكثر قابلية للبقاء والانتشار، خلافاً للتدين الذي يركز على النجاة الفردية بعيدا عن السلوك اليومي في المعاملات، مع العلم أن هذا التيار لم يكن هو الذي نشر التدين، بل استثمر انتشاره في الترويج لمقولاته تبعاً لدعمه من قبل الأنظمة، ولغياب التيارات الأخرى في مواجهته بسبب انشغالها بمواجهة عمليات التحجيم الرسمية التي تعرضت لها منذ مطلع التسعينيات.
بقي القول إن قادة هذا التيار يخطئون إذا اعتقدوا بأن دعم الأنظمة لهم سيطول، إذ ما إن تنتهي مهمته في تحجيم التيار الإسلامي المسيس حتى يجري الانقلاب عليه، لأن أنظمة متغربة ومسلوبة الإرادة لن تمرر سحب البساط من تحت قدميها عبر تغيير ثقافة المجتمع وتحويلها إلى نمط إسلامي متشدد، حتى لو قال بطاعة ولاة الأمر. أما في الدول التي تنتصر فيها ثورات الشعوب، فسيكون مصير التيار أسوأ تبعاً لمواقفه السلبية منها.
من الأفضل لعقلاء هذا التيار أن يعيدوا النظر في مواقفهم، تماماً كما يفعلون في سياقات أخرى ولاعتبارات إرضاء الحكومات (آخرها تأييد هذا التيار للمشاركة في الانتخابات بالأردن بعد طول تحريم لها، لأن الحكومة كانت تريد رفع نسبة الاقتراع في ظل مقاطعة الحركة الإسلامية)، وإلا فإن الزمن سيتجاوزهم بعد وقت لن يطول
إقرأ أيضا لـ "ياسر الزعاترة"العدد 3219 - الخميس 30 يونيو 2011م الموافق 28 رجب 1432هـ