العدد 3214 - السبت 25 يونيو 2011م الموافق 23 رجب 1432هـ

رائحة السل ... لا برتوكول للألم

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

سعالك الليلي يا أبي كم أربك نجوم أحلامنا؟ تلك السمفونية المقيمة برائحة السل؛ كانت تدفعنا دفعاً إلى الحافلات ونحن نيام قبل السادسة صباحاً، وأزرار قمصاننا لم تشد إلى صوامعها! نذهب إلى الدرس بصحوة سعالك وبالنجوم المرتبكة.

في درس الرياضيات، نمعن في النعاس والصداع، وحين يأتي درس اللغة نكون كمن هيأ نفسه لرياضة اللهو والمرح. سعالك كان أول مدخل لإيقاع الوقت واللغة في الوقت نفسه.

كنت تحافظ على تفعيلة الصدر ووزن السل وبحر من السهر الذي لا ينتهي. كنا ندرك العواء الذي تكتظ به. والليل المتواطئ معك في كل ذلك، لم يغب عنا ليلكه وبريته الموصدة!

درس العناصر الذي تركته لنا يا أبي كان تحريضاً للضجر علينا. ساعة زينتك والعصا التي لم تفارقك تحيل كل زينة إلى غياب صريح.

والأغصان العالية في بريَّة البيت الفسيح وحوض السباحة الشعبي كانا محض أشباح ومتر محاصر ويباب بسعة الغصص التي جلدتنا يوم أن داهمتنا الفاقات باستهداف لم تستوعبه أرواحنا؛ إذ دهنت أجسادنا برمادها وعماها وأطلقت ضباعها لتلهو بأجسادنا الناحلة، لفرط ما كان وهم القوت مهيمناً على القدور الفارغة.

كان العسل يمر علينا يلوح بيديه والمرارة سقفنا الماثل.

ملامحنا التي خط العرق عروقه البيضاء على جلدنا الأسمر لفرط إسلام أرواحنا لدرس الشمس كي لا نضجر من الجوع. في البيت برهان آخر على خذلان لهونا الضروري وغيابه الذي تركنا نهذي في ضلالنا باتخاذ اللا أمكنة ملاذاً ومأوى لنا. في السينما كنت مفتوناً بفيلم هندي. في العاشرة من الغصَّة فيما كانت ساعة احتضارك تشير إلى الخامسة مساء على سرير في مشفى لم يردعك هذه المرة احتضار المرضى الجماعي. ظلت السيمفونية ذاتها برائحة السل تدفع حافلات الموت إلى الانشداد لفضيلة الصدر ووزن السل وبحر سهر لا يهدأ أينما حللت. البيت الذي تركته من دون سقف، باستثناء غرفة واحدة تحولت بعد سنوات من رحيلك إلى حيزي الخاص؛ ولكن في حضور مؤقت قادماً من مهجر فرضه العَوَر في السياسات والفاقة وغصة تحاصرني بالحكايات التي لم يقدر لي أن أصغي جيداً لنهاياتها الباذخة. الغرفة ذاتها بالسعال الذي اكتظت به، وتفعيلة الصدر منها بدأت أول نص لي. لم يك محكماً بوزن سلَّك وبحر سهرك؛ لكنه كان البلل الأول الذي اختفت به العروق البيضاء على جلدنا الأسمر لفرط إسلام أرواحنا لدرس الشمس.

في المشفى حيث أسلمتَ روحك، كنتُ في الوقت نفسه أسلمت طفولتي وفضولي لعالم مبكر على الفقراء أمثالي (السينما). لم أشعر بمراتب وطقوس وبرتوكولات الألم؛ لكن لا برتوكولات للألم أساساً. لم أشعر بذلك إلا لحظة الحشر. حشر عهدته في أكثر من وداع حرصت على حضوره من دون أن أعي تفاصيل ومعنى الفقد. من دون أن أعرف موضوعة الوداع الأخير؛ لكنه حشر نبَّهني إلى درس الألم واللهو وبينهما برزخ. على قبرك بقدر ما كان عدد البشر لا يحصى في وعيي والوحدة التي ألفت؛ إلا أنني رأيت فراشات وضبابا أليفاً وشتاء في ذروة صيف لم يكن رحيماً يحيط بالحفرة (الغرفة) التي ستمارس فيها حرية سعالك والتفعيلات التي تروم ووزن الحرية التي كنت تمارس بإفصاح واحتجاج؛ فيما نحن نرشح انتظاراً لدورنا في التنفس! لم تكن رحيماً كوقتك.

والسرير الذي استضافك فيما كنت أمارس لهوي الاستثنائي في طفولة جرفتها الفاقات، وتركتها في مهب عناء وأبوَّة مبكّرة لأحتال عليها عبر صناعة وهم جميل امتازت به السينما الهندية وقتها حدَّ التفوق على كل بحور وتفعيلات الوقت في زمننا البسيط والفادح معاً. الوهم وقتها تجاوزك كما تجاوز وقتنا المستلب.

لست أدري لماذا تذكرت حين أبصرت مدْرج الطائرات في أول رحلة لي خارج الغصة حيث لم أتعدَ أحلامي البسيطة روحك في الطريق السهل إلى الله، وأوزانك الفادحة

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3214 - السبت 25 يونيو 2011م الموافق 23 رجب 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً