بمناسبة مرور ستين عاما على تأسيس جمعية الإصلاح، وتزامنا مع مرور عام على انطلاق انتفاضة الأقصى، نظمت الجمعية في سبتمبر/ أيلول 2001 جناحا خاصا عن فلسطين، على هامش معرض الكتاب في مركز المعارض. كان الجناح يتكون من طابقين، وعرضت فيه صور عالمية من واقع الانتفاضة وحياة الشعب الفلسطيني ومعاناته وصموده تحت الاحتلال. وعلى هامش المعرض أيضا، ألقيت عدة محاضرات في السياق نفسه، من بينها محاضرة للكاتب والوزير البحريني السابق علي فخرو، وللشيخ أحمد القطان من الكويت الشقيقة. وقبل عامين نظم عدد من الفعاليات بالمنطقة الشمالية "مخيم جنين"، بجهود أهلية بحتة، كاستجابة عفوية وسريعة من قبل قطاع من مواطني هذه الجزر، لما حدث من مجزرة في جنين. مساء الخميس الماضي، نظمت جزيرة النبيه صالح، وهي من أصغر الجزر المسكونة مساحة في هذا الارخبيل، "مهرجان القدس الخامس"، حضره عدد كبير من مختلف المناطق، ليعبروا عن موقفهم المعارض لسياسة انهاء المقاطعة. فهذا هو شعب البحرين، وهذا هو معدنه الأصيل. الآن يجد هذا الشعب نفسه أمام أمر يراد له أن يكون واقعا مسلما به، بعد أن صدرت الإشارات الأولى باتجاه رفع المقاطعة للكيان الصهيوني، وإغلاق مكتب المقاطعة في المنامة، وهي الخطوة الأولى التي ينتظر أن تمهد للتطبيع، بعد أن تكون هناك تهيئة نفسية، يشارك فيها طرفان: الطرف الأول بعض المسئولين لـ "شرح وتوضيح" الموقف الرسمي، لأن الشعب هنا "لا يفهم" مستجدات الساحة الإقليمية والدولية! والطرف الآخر هو "كتاب الموالاة". الطرف الرسمي قال كلمته، ولم تبق في جعبته كلمة أخرى يمكن أن يضيفها لتبرير القرار المرفوض شعبيا: "نحن مجبورون مضطرون، وهذه مصالحنا"، والخلاصة... عند البطون تعمى العيون! الطرف الآخر الذي كان يعول عليه كثيرا في تبرير الخطأ، هي "كتيبة الموالاة"، التي كانت خير مدافع عن كل القرارات والسياسات الرسمية، أيا كانت، وعلى حق كانت أو على باطل. فهؤلاء موقفهم "انصر الحكومة ظالمة أو مظلومة"! ونادرا ما تكون الحكومة مظلومة، ومع ذلك فهم يناصرونها على الدوام. بعض أفراد هذه الكتيبة كان لهم مرافعات بدائية فجة، حاولوا فيها الدفاع عن قرار رفع المقاطعة، ومع ذلك، ولأن القرار خاطئ وغير شعبي، ويتناقض مع ثوابت الأمة ومعتقداتها، ويصطدم بقناعاتها وبديهياتها، فإن سهام الدفاع ارتدت عليها خيبة وخسارا. النجاح في الدفاع عن أية قضية، يستوجب الإيمان بعدالتها أولا، ولا أحسب ان في شعب البحرين من يؤمن حقا بصحة قرار المقاطعة، خصوصا اننا كنا من أكثر الشعوب تعلقا بقضية فلسطين ومأساة شعبها الشقيق. وإذا كان هناك من الفلسطينيين ثلاثة أجيال ممن عانوا النكبة ومازالوا يدفعون ثمن تلك المؤامرة الدولية الكبرى، ففي البحرين هناك ثلاثة أجيال أيضا ممن عايشوها وتألموا لها، وتركت عليهم أثرها العميق. هذا الأثر تراه في هذا الإجماع الوطني المطلق، على رفض قرار رفع المقاطعة، ومن مختلف الشرائح والطوائف والأطياف. في هذا الجو، يصبح التهوين من القرار ومحاولة التخفيف من آثاره، والتماس المبررات السخيفة له، نوعا من الكتابة البوليسية، إذ يكون هم الكاتب العبقري إخفاء شخصية المجرم حتى الصفحة الأخيرة من الكتاب، ويحاول طوال فصوله إلقاء الكثير من الشكوك، ويوزع الكثير من التهم على مختلف الأطراف والشخصيات المعارضة، فقط من أجل "عيون الحكومة"! مثل هذه الكتابة تفتقر إلى روح المسئولية الوطنية، والالتزام المبدئي، إذ تلعب على وتر المصالح القطرية الضيقة التي أهلكت الامة العربية طوال العقود الأخيرة. وهي سياسة أنور السادات، الذي أبدع في التلاعب بكل مسلمات العرب والمسلمين، فنزل بطائرته في مطار اللد، ودخل الكنيست الاسرائيلي جريا وراء سلام موهوم، وازدهار اقتصادي عظيم ورخاء عميم. هذه السياسة المدمرة، التي ضعضعت الموقف العربي، وجدت من كتاب "الموالاة" الساداتيين من يبررها ويدافع عنها، ويهاجم من ينتقدها بقوة، حتى أصبح شتم الكتاب المحترمين خصوصا في المهجر، سنة متبعة في مصر طوال الثمانينات. وعلى رغم شراسة الهجوم الإعلامي على معارضي سياسة السادات التطبيعية، إلا ان ذلك لم يضمن ابتلاع الطعم أو "تمرير" سياسة التطبيع. طبعا لا ينكر أحد أن هناك أصحاب مصالح مستعدين لبيع العرض والشرف، والدين والوطن، من أجل مراكمة الأموال، إلا ان هذه الشريحة من الطفيليات تبقى محدودة جدا بالنسبة للسواد الأعظم من الشعب. هذا السواد الأعظم هو الذي نراهن عليه استراتيجيا في استمرار المقاطعة، فضلا عن إفشال التطبيع مستقبلا. قبل أربعة أعوام جاء الشيخ القطان ليشارك البحرينيين في مساندتهم للانتفاضة، فيما شاركتهم الاسبوع الماضي فرقة الكوثر من الكويت... وكانت أنشودتها الحماسية هي مسك الختام، إذ تخاطب فلسطين: "أتينا لنجدد خيبر... خاب من عاداها" ولتخاطب الفلسطيني المحاصر: "يا فدائي... أنت رمز للوفاء..."
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1124 - الإثنين 03 أكتوبر 2005م الموافق 29 شعبان 1426هـ
مقال رائع كروعة ةكاتبه. إنه مقال ملتزم أخلاقيا ودينيا وقوميا ووطنيا، وهو يعب عن التزام الكاتب بقضايا أمته. باركه الله وأمد في حبر قلمه.