لم يبق وقت بعيد يفصلنا عن المؤتمر القطري لحزب البعث السوري، الذي استمر يقود الدولة والمجتمع لمدة عقدين وبشكل محكم، وضع البلاد كلها تحت رحمة السلطة الأمنية المطلقة من طراز حديد، وأوصل البلاد والمجتمع إلى حال شبه اختناق، الأمر الذي أدى إلى وصف المرحلة بأنها مرحلة الخوف التي أفرز ثقافتها الخوف. وهذا ما كشف الستار عنه أخيرا وأصبحت عناوين المقالات في الصحف العربية والأجنبية، ويتم الحديث عنها في الأوساط الاجتماعية، خصوصا بعد تولي الرئيس بشار الأسد الحكم.
ومن بعد ذلك ظهرت على السطح مقولة "ربيع دمشق"، وهي تسمية للمرحلة التي شهدت السجالات والنقاشات، وتأسيس المنتديات ومنظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الانسان. وفي كثير من الأحيان ينظر الى تلك المرحلة بأنها سابقة في حياة سورية، وربما ذكر يردد دائما قد يكون بدافع "الحنية" مرة، ومرة أخرى بدافع قراءة المرحلة واعتبارها تجربة لحراك ثقافي ومدني.
على كل، فإن مؤتمر البعث الذي نتحدث عنه سينعقد بعد حوالي أسبوعين في ظل الضغوط والأوضاع الصعبة التي تمر بها البلاد. وكلما نقترب نحو موعد المؤتمر، تزداد هواجس المجتمع وقواه السياسية. ويدور النقاش بشكل كثيف، مرة يأخذ منحى ناريا يصل أحيانا إلى حد اللاتوازن مثل كثرة الاعتصامات والاحتجاجات والبيانات إلى درجة يفرغ مطلبا محقا من محتواه، ومرة يأخذ منحى عقلانيا يتعامل مع المرحلة بروية وحذر، وذلك من خلال اللقاءات والنقاشات، ويشمل ذلك الحراك السلمي الحضاري، قد يكون من خلال التظاهر أو حتى الاعتصام.
والدعوات لعقد مؤتمر وطني شامل لا يستثني "البعث" أيضا ليكون مدخلا أو يشكل أرضية للحمة وتراص الصفوف. وللأسف فإن هذا المطلب لم يلق أذنا صاغية من قبل الكثير من الاطراف، مع ان مثل هذه الدعوة هي من استحقاقات المرحلة، وهي ضرورة وطنية استراتيجية قبل أن تكون موقفا سياسيا تكتيكيا "لحظيا".
ونتيجة للالتباسات وضبابية المرحلة ونتيجة لمناورات بعض الاطراف التي تعتبر نفسها معارضة وهي بعيدة عن حال المواطن وظروف عيشه، وعدم معرفة رصيدها الجماهيري او الاجتماعي، فلا غرابة أن لا تحقق النقاشات أحيانا مبتغاها وتأخذ أشكالا غير منسجمة، ولا تقترب من روح المجتمع ورؤاه.
وبعض هذه الأطراف ينتظر النتائج والقرارات التي سيتمخض عنها المؤتمر القطري للبعث من دون ان يحرك ساكنا، ويتجنب اتخاذ موقف، وهو ما ينظر إليه باعتباره "مراقبا سلبيا" في المشهد السياسي السوري.
وهناك شكل آخر لا يكلف نفسه عناء البحث في طموح المجتمع وحث القوى السياسية على محاكاة الاوساط ذات العلاقة بالأمر. وهناك شكل ثالث لا يشاطر الفريق الاول والثاني، يطرح وجهة نظر مغايرة تنطق باسم جزء من القوى الكردية إذ يرى أن حزب البعث كأحد الاحزاب السورية، وانه يقود الدولة والمجتمع. ومن السذاجة ان نطلب منه الشيء الكثير، خصوصا أن طبيعة المرحلة تتطلب أن يتحرر البعث نفسه من احتكار السلطة. وأنه أمام تغييرات تنظيمية مرتقبة، لا نعرف بالضبط ما الذي سيحدث في المؤتمر، إذ تشوب الأوضاع حال من الضبابية.
وهناك طرف رابع قد ينطق باسم جميع الاتجاهات السياسية، خصوصا المعارضة منها، يعتبر فترة حكم البعث في حال ضمور في الحياة الاجتماعية والسياسية وحتى الحزبية.
وحال أحزاب الجبهة ليست أحسن من بقية القوى السياسية، فالفترة التي انصرمت كانت فترة العقم بالنسبة إلى الحياة السياسية والحزبية "بحسب رؤية بعض النخب السياسية المعارضة". ويستند هذا الرأي الى الأسلوب الذي كان يتعامل مع الجزء ضمن الفضاء الكلي. بمعنى آخر يرى هؤلاء ان حزب البعث يختزل الكل في نفسه، وكان يفكر ويناضل عن الكل، حيث اللاتوازن بين الواجبات والحقوق. وكان مفروضا على المجتمع ان يقوم بواجباته، أما مسألة الحقوق فهي مسألة اخرى. الحقوق كانت مباحة للبعث ورفقائه ومؤيديه ومناصريه ومؤازريه، وهو ما سبب المعاناة لبقية فئات الشعب.
الطرف الخامس وهو شكل يدقق في التفاصيل ولا يشغل باله كثيرا بالسياسة وهموم أصحابها. وهناك من يحمل تجارب اجتماعية تظل حاضرة في ذهنه، ليس بوسع السنين ان تمحوها، فلم يكن يستطيع أن يسجل في الكلية التي يريدها، في حين يسجل زميله في الكلية نفسها، وبعلامات أقل، إلا ان ما يميزه عن الطالب غير البعثي بانه مظلي او انه خضع لدورة حزبية. وكذلك من عانى من الحصول على وظيفة لعدم بعثيته، وكم من الاغراءات قدمت له حتى يصبح بعثيا، فكم للبعثي من امتيازات.
في الحقيقة هناك حزمة من المعاناة الاجتماعية لاحتكار البعث للامتيازات، فحتى الآن ليس بوسع أحد غير بعثي التسجيل في معهد العلوم السياسية. وبشكل أدق لم يفتح حزب البعث المجال امام شخص غير بعثي للدراسة في هذا المعهد لكي يتعلم السياسة كعلم، مثلما كان في السابق كلية الصحافة، الأمر الذي خلق - شئنا ام ابينا - ضحالة لدى خريجي اقسام العلوم السياسية وحتى الصحافة.
وهنا السؤال يطرح نفسه هل من آمال للمؤتمر القطري؟ وهل فعلا سينقل سورية كبلد وقوى سياسية الى حال أخرى تسود فيها المساواة بعيدا عن احتكار السلطة؟ يجب ان ينظر المؤتمرون بجدية الى مستقبل البلاد، ويخلقوا آلية للخروج من الازمة، وهي ما تتطلب من السلطة اطلاق صفحة الحوار بين جميع السوريين ليكون عنوان المرحلة بدلا من الاستفراد بمقدرات الشعب، وهو ما يخلق شرخا عميقا بين القوى السياسية وبين السلطة التي هي بأمس الحاجة اليها. هذا فضلاعن ان البعثيين يتحتم عليهم مراجعة وقراءة المنطلقات النظرية للحزب لأن هناك تصورا بان المنطلقات النظرية لا تصلح للمرحلة!
وإلى جانب ذلك فان القوى السياسية أيضا مدعوة إلى التفاعل مع القوى السياسية وعلى رغم خيبات الآمال ومطالب ان ننظر الى الاموربالسوداوية وبقطع الآمال نقفز على مقولة المرحوم سعدالدين ونوس الذي قال: "نحن محكومون بالأمل" وحتى ان لم تكن الآمال الا ان من الواجب الاخلاقي السياسي ان يكون للمرحلة مطاليبها. وفي ضوء هذه المرحلة يتطلب المزيد من التراص في الصفوف سواء على مستوى المعارضة او على مستوى السلطة وانصارها او بالأصح بين السلطة والمعارضة فالمطاليب لا تقتصر على المطالبة من الحزب وعندما نعد مطاليبنا قد لا نطلب من الحزب بل نعد استحقاقات المرحلة وربما هناك امور متعلقة بحزب البعث نفسه فيكون من المنطقي ان نذكره قبل حضوره للمؤتمر . من دون شك ان هناك امورا كثيرة يتطلب الوقوف عندها ومن الواقعية البحث في معالجتها.
* كاتب كردي سوري
إقرأ أيضا لـ "فاروق حجي مصطفى "العدد 998 - الإثنين 30 مايو 2005م الموافق 21 ربيع الثاني 1426هـ