طرح البطريرك الماروني في عظة الأحد فكرة الحزبين في لبنان كما هو حاصل في بعض الدول الأوروبية والأميركية. وجاءت الفكرة ردا على تلك الانتقادات التي صدرت عن جهات مختلفة بشأن قانون الانتخابات والتقسيمات المناطقية والطائفية والمذهبية للمقاعد النيابية. فالفكرة جميلة وربما تلاقي بعض الاستحسان لدى فئات كثيرة ترى في النظام الطائفي مشكلة تعوق التطور السياسي في لبنان. والفكرة كنموذج لا بأس بها إذا اتفق عليها بديلا لتقسيمات حزبية - طائفية تتحكم بآليات التصويت الانتخابي في كل دورة برلمانية.
إلا أن الطرح يواجه مجموعة تحديات لها صلة بالواقع اللبناني وليس بالفكرة المثالية نفسها. فالواقع كما هو متوارث ومتعارف عليه ينتج فعلا الكثير من الطائفيين والقليل من اللبنانيين، الأمر الذي عرض دائما "الصيغة" إلى اهتزازات في كل منعطف تاريخي تمر به البلاد.
فكرة الحزبين اللبنانيين يصعب تصور قيامها من دون أخذ الواقع المركب من طوائف لا تجتمع على وحدة وطنية إلا في حالات نادرة بينما تختلف على المصالح الجزئية في كل الحالات. حتى فكرة الحزبين - في حال توافق اللبنانيون على قيامها - فإن الواقع سيتدخل ويفرض شروطه الأهلية ويعيد تقسيم البلاد إلى نصفين: مسلم ومسيحي. فهذا المسلم له حزبه وذاك المسيحي له حزبه. وبالتالي تصبح الفكرة "الحضارية" الموجودة بحدود نسبية في بريطانيا والولايات المتحدة مثلا مجرد تلوين سياسي لاجتماع الطوائف المسلمة في حزب يقابلها اجتماع الطوائف المسيحية في حزب مضاد.
المشكلة ليست في فكرة "اقتراح" البطريرك الماروني وإنما في الواقع الذي ينتج شروطه الأهلية ويعيد تركيبها وفق انقسامات تخاطب الأهواء والمشاعر والبنى التقليدية المحلية "العصبيات على أنواعها" وتنتج في النهاية صيغة سياسية تشبه الواقع اللبناني.
فكرة الحزبين في لبنان ستختلف في النهاية عن فكرة الحزبين في بريطانيا والولايات المتحدة أو فرنسا وألمانيا. فالأحزاب الأوروبية والأميركية تطورت جدا في العقود العشرة الأخيرة ونجحت في الانتقال من النظرية السياسية إلى التوافق المرحلي على برنامج يخاطب مصالح فئات محددة في المجتمع. وهذه الفئات على أنواعها ليست بالضرورة موحدة في جنسياتها وألوانها ودياناتها وإنما تملك مصالح اجتماعية تفرض عليها التصويت لمصلحة هذا الحزب أو ذاك.
هذا الانقسام الاجتماعي غير موجود في لبنان وإذا وجد فإنه يتداخل بتلك التقسيمات المذهبية والطائفية والمناطقية "العشائر، والعائلات" في المحافظات والأقضية. حتى في أوروبا والولايات المتحدة فإن الانقسام الاجتماعي ليس صافيا في تعبيراته الاقتصادية والطبقية فهو أيضا يعاد إنتاجه وفق تركيبات محلية ترتب المشاعر والأفكار بأسلوب حديث من دون القطع مع التلوينات المحلية للولايات.
الحزب الجمهوري في أميركا مثلا يضم مختلف الفئات مع غلبة للعناصر الأوروبية البروتستنتية البيضاء. والحزب الديمقراطي المنافس يضم مختلف الفئات مع غلبة للعناصر الأوروبية الكاثوليكية البيضاء تضاف إليها مجموعات لاتينية وإفريقية ومسلمة ويهودية تميل في مشاعرها الاجتماعية إلى التصويت لمصلحة برنامج "الديمقراطي". فالأخير يعكس مصالح الطبقات الوسطى بينما "الجمهوري" يمثل مصالح تلك التكتلات الاقتصادية الكبرى "الصناعات العسكرية وشركات النفط".
الأمر نفسه يمكن قراءة بعض تفصيلاته في التجربتين الفرنسية "الكاثوليكية" والبريطانية "الانفليكانية". فالأحزاب في البلدين المتقدمين صناعيا وتقنيا وزراعيا تعكس في الواقع تلك التعقيدات الخفية في المجتمع.
هذه التعقيدات الخفية في بريطانيا وأميركا وفرنسا وألمانيا نراها ظاهرة في لبنان. فالمستور في أوروبا وأميركا مكشوف في لبنان مع الأخذ في الاعتبار نسبة الفروقات الشاسعة في التطور السياسي - الاقتصادي بين النموذجين.
نموذج الحزبين في لبنان فكرة ليست سيئة، إلا أن المخاوف تبقى في مكانها وهي إعادة إنتاج استقطابات طائفية ومذهبية ومناطقية تحت مظلة سياسية كبرى تمثل في جوهرها ذاك الانقسام الموروث في الواقع اللبناني
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 998 - الإثنين 30 مايو 2005م الموافق 21 ربيع الثاني 1426هـ