"ليس شيء أحسن من عقل زانه علم، ومن علم زانه صدق، ومن صدق زانه رفق، ومن رفق زانه تقوى". الإمام علي بن أبي طالب. يبدو أننا - عربا ومسلمين - ونحن نقف مع العالم أجمع على العتبات الأولى للقرن الحادي والعشرين، قرن العقل لا محالة، مازلنا لا نعرف حتى الآن حق المعرفة معنى الاختلاف وشروطه بشتى صوره: في الفكر الحر الذي لا تحده حدود أو تقننه ضوابط والفكر المقيد - عقائدي سماوي او عقائدي أرضي - في السلوك، في اللباس، في المعرفة وغيرها من الصور؛ أن اختلف معك في الرأي والفكر والملبس والماكل والسلوك بشكل عام لا يعني هذا إطلاقا بأني عدوك اللدود وعدو جميع أهلك وعشيرتك وجميع من تعرف وتنتمي إليه فكرا وعقائديا وجغرافيا؛ أن اختلف معك بأية صورة يبدو لاتزال كما هي منذ العصور الغابرة وإن هي مملؤة بصور جميلة من صور فلسفة الاختلاف أن أحاربك وأحارب كل طوائفك وكل ما تعرف وكل خيرك وشرك؛ وهذا الأمر ليس فقط بين الأفراد الذين يفتقدون المعرفة بمعنى الخلاف، والاختلاف ولكن يجري هذا الأمر بين أناس يحملون شهادات عليا سهروا الليالي الطوال من أجل أن يحصلوا ويحصلوا علما يرفعهم إلى مراتب عليا من قبول فكر الآخر مهما كان قاسيا وتفنيده وتبيان قصوره إن وجد أي قصور، من دون المساس بشخصه بأية صورة من صور المساس، أو المساس بكل من يرتبط به من إنسان ونبات وجماد وحيوان. الباعث على الإفصاح بالفقرة السابقة هو ما تم ملاحظته في جلسة صغيرة ضمت بعضا من الأفراد من بينهم صاحب هذه العجالة جاء فيها ذكر اسم شخص مبدع، له باع طويل في مجال الإبداع، وله من الاخلاق الجميلة والحميدة التي لا يمكن أن تجدها في شخص آخر ولا يمكن نكرانها، ويحفظ من الشعر والأدب وتاريخ العظماء وبعض أقوالهم، ويعرف شيئا كثيرا في السياسة وله بعض من التاريخ النضالي والعملي المميز، فقام شخص يحمل على كتفيه شهادة كبيرة وخبرة لا يستهان بها، وقال عنه إنه رجل "منحرف". استغربت أيما استغراب بوصم الرجل بهذه المفردة فسألت القائل: "لم هو منحرف وكيف؟" فقال: "يشرب الخمر". فقلت: "وما يجدر ملاحظته أني لم أسأله له كيف عرفت؟ وهل جالسته في جلسة من الجلسات الحمراء وهو يحتسي الخمر؟ أم إنك تناقلت مع الناقلين ما يتناقله الناقصون عقلا وعلما وجئت به فرحا إلى هذا المجلس وغيره من المجالس؛ وجميعنا نعرف أن العلم يحض على البحث والتقصي والاسلام يأمر: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم`` "الحجرات:12"، "وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا" "النجم:28". مطلوب منا ألا نسيء إلى الناس وأن لا نقول ونردد ما يقوله الناس وعلينا التحري بكل ما يورد لنا من أقاويل وأباطيل عن أي فرد كان وقد قيل أن "الله يحب الستر"، قلت أن هذا لا يسمح لك أن تقول عن الرجل "منحرف". أقول هذا لكوني اجزم على أن "الانحراف" كمفهوم ومصطلح وهما -المفهوم و المصطلح - شيئان مختلفان اختلافا كبيرا، فالانحراف يعنى إلى جانب ما يعني: الشذوذ، الميلان، الضلال، الفساد والخروج عن العادة والمألوف. صاحبنا المبدع لا علاقة له بكل هذه المفردات وإن هو خرج عن العادة والمألوف فخروجه لا يعدو عن كونه إبداعا. ثم نأتي إلى القواميس لتطلعنا عن المعنى المقبول به من قبل فطاحلة اللغة عن العادة والمعتاد، فنجد "الوسيط" يمنحنا هذا التعريف: "عادة - ج: ات، عوائد. جع ودة. "من عادته أن يزور أهله": من المألوف، ما يعتاده المرء ويكرره، "هذا ما جرت به العادة": هذا ما جرى به التقليد. "حسب العادة" "إن الناس يكتسبون على رأس كل مئة سنة عادة جديدة". "التوحيدي". "سفير فوق العادة"، "مؤتمر خارق للعادة": أي مؤتمر استثنائي لطرح قضايا مستعجلة". "الوسيط". أما قاموس المحيط فيمنحنا هذا التعريف: "العادة: كل ما كرر فعله الشخص حتى صار يفعله من غير تفكير، أو هو فعل يتكرر على وتيرة واحدة؛ عادة التدخين "استيقظ باكرا كعادته/قام برياضته الصباحية جريا على عادته/أمر خارق للعادة، أي ليس مما يتكرر على وتيرة واحدة/ سفير فوق العادة/ يشتد الحر هنا عادة في فصل الصيف، أي غالبا أو في غالبية الأحيان. وها نحن نرى أن الانحراف أو الخروج عن العادة ليس لهما علاقة بشرب الخمر. كما إني أستغرب أن يخرج هذا الكلام من شخص درس وعمل في الدول الغربية وعاش في حماها سنوات، والأساتذة يحتسون الخمر جهارا نهارا، والعاملون غالبيهم ما أن تعلن ساعة الانصراف حتى تراهم يجتمعون في حان يغسلون فيها تعب اليوم، ونجد أن الشخص ذاته يفتخر بأن هؤلاء كانوا أساتذته وهو قد غفر لهم احتساءهم للخمر ولم يطلق عليه صفة الانحراف. المشكلة الحقيقية إننا في مجتمعاتنا لا نستطيع التفريق بين الخاص والعام. بين أن يكون الإنسان مبدعا منتجا وله منحى خاص في حياته لا يطابق منحانا ولا يتقيد بشروط سلوكنا وعقائدنا ونوظف مواهبه وقدراته وعلمه لتصب في مصلحتنا ونطلق على كل ذلك بأن الله سخره لنا واستغرب لماذا لا يكون الشخص نفسه مسخرا لخدمة الناس، لماذا دائما يسخر لنا الله المنحرفين ليقدموا لنا الخدمات الجليلة؟، وها هي أميركا الشيطان الأكبر سخرها الله لخدمتنا حتى القتال بدل منا! من ناحية أخرى رأيت بعضا من قوم لهم ما لهم من معرفة مثقلة أكتافهم وكواهلهم بالشهادات العلمية يتبادلون فيما بينهم "مسجات هاتفية" تتعرض لأهل فلان أو علان من الناس، قد قال كذا وكذا، أو كتب كذا وكذا إذا لم تعجبهم أقواله أو يوافقوا على كيفية ونوعية طرحه لها، إضافة إلى أنه لم يوافق القوم في رأيهم. هؤلاء الأفراد يعطون صورة ليست جميلة عن معنى الاتفاق والاختلاف في الرأي، وعن مدى وعي المجتمع الحقيقي بأهمية العقلانية في الاتفاق والاختلاف في الرأي. في تعريف "اتفاق الرأي واختلافه" نجد "نجعة الرائد" تذكره على هذا النحو، يقال: اتفق القوم على الأمر، وتوافقوا وتواطأوا وتمالأوا، وتدامجوا، وقد أجمعوا على كذا، وأطبقوا واجتمعوا على الأمر، واجتمع رأيهم عليه، واجتمعت كلمتهم، واتحدت وجهتهم، وتسايرت أهواؤهم، وأمضوا أمرهم بالاتفاق، وأبرموه باجتماع الأهواء، وفعلوا ذلك بإجماع الكلمة، وحكموا بكذا قولا واحدا، وهم في ذلك لسان واحد، وقد استقاموا على عمود رأيهم أي على وجه يعتمدون عليه. وتقول: وافقت فلانا على الأمر، وطابقته، ومالأته، وواطأته، ودامجته، وشايعته، وتابعته، وجاريته، وواءمته، وقاررته، ورأيت في ذلك رأيه، ونزعت منزعه وإني لأميل إلى مذهبه، وأذهب إلى رأيه، وأنزع إلى مقالته. ويقال في ضده: "قد اختلفوا في الأمر، وتخالفوا، وتشاقوا، وتنادوا، واختلفت كلمتهم وتعارضت أهواؤهم، وتشعبت آراؤهم، وتباينت مذاهبهم، وانتقضت عقدتهم، واضطرب حبلهم، واضطربت خيلهم، وانشقت العصا بينهم، وقد استحكم الشقاق بين القوم، وذهب الخلف بينهم كل مذهب، وقطعهم الله أحزابا، وتفرقت بهم الطرق، وتعادى ما بينهم، وأصبحوا لا تجمعهم جامعة، ورأيت بينهم صدعات، أي تفرقا في الرأي والهوى". يبدو انا لا نأخذ من معنى الاتفاق شيئا، في حين أننا نأخذ معنا أينما ذهبنا وحللنا المعنى الخاص بالاختلاف. نحن حقيقة في معمعة من أمرنا، فليس هم وحدهم الذين يجهلون قوانين وأعراف اختلاف الرأي و إنه "لا يفسد في الود قضية" الذين يصيبوننا بالغثيان بل حتى أولئك الذين أوتوا من المفترض العلم والحكمة وهم نخبة القوم وزبدته ولكن يبدو أن مقولة "آيتماتوف" في "وداعا يا غولساري": "وفي الدنيا يوجد مثل هؤلاء الناس، الذين لا يتأثرون لإطلاق ولا يهمهم الإساءة إلى الإنسان وإهانته والتعدي عليه، لا لشيء إلا للتأمر وللشعور بممارسة السلطة". العرف هو: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" "فصلت:34" يبقى السؤال ماثلا: "لما
العدد 941 - الأحد 03 أبريل 2005م الموافق 23 صفر 1426هـ