"الديمقراطية هي فن الاعتراف بالآخر". .. شارك تايلور ما المقصود بالنيوليبرالية؟ أو الليبرالية الجديدة؟ ثمة صورة مشوهة لليبرالية الجديدة في سياقها العربي، لذلك أفضل وصف بعض المدعين بأنهم "ليبراليون جدد" في الوطن العربي، بـ "المتلبرنين الجدد"، ذلك أنهم مهما حاولوا عبثا أن يجعلوا من مجمل إشتغالاتهم السياسية، بناء معرفيا متكاملا، فإنهم عاجزون عن الإقناع، فالخطاب البليد، واللغة المعرفية الركيكة، سيدة ما يكتبون، وما ينطقون به. لذلك، لابد من تناول الليبرالية الجديدة في سياقها الغربي "الأم"، ولا أحاول بهذا أن أجعل من الليبرالية الجديدة عنصرا دخيلا، أو هجمة غربية لابد من التنبه لها، بل هي ذلك التطور التاريخي الطبيعي للرأسمالية الغربية، ونحن متأثرون بها لا محالة، و"المتلبرنون الجدد"، هم إحدى ظواهر هذا التأثر، لكن أن نحاول تجاوز فجوة تاريخية ومعرفية، عبر خطاب سياسي، هو في مجمله وليد مرحلة صراع أو حدث، فإننا بالتحديد نبالغ كثيرا حين نزعم أنه بين ظهرانينا هنا "ليبراليون جدد".
#فهم المعنى#
النيوليبرالية، أو الليبرالية الجديدة هي أيديولوجية الرأسمالية الكونية الجديدة، في اللانظام العالمي الجديد، وتتفصل في ثلاثة تقسيمات مهمة ورئيسية: أولا: مبادئ الحرية الإقتصادية والتجارية، إذ تعطي الليبرالية الجديدة، للبعد الإقتصادي الكوني، ولمصالح الشركات المتعددة الجنسيات الأولوية القصوى على مجمل الخيارات السياسية والثقافية والإجتماعية، في محاولة لضمان حركة إقتصادية تجارية نامية ونشطة. بمعنى أنها تعتمد على "تكوين مجتمع كوني إقتصادي"، يعتبر هذا المجتمع، ضمان الرفاهية والسلام، فدولتان تعمل بهما شبكة مطاعم مكدونالدز، لن تقوم بينهما حرب البتة. ثانيا: الديمقراطية كخيار سياسي، تحاول الليبرالية الجديدة الإعتماد على مفهوم الديمقراطية سياسيا، بمعنى أنه على المجتمعات الكونية في حال اختيارها الإنضمام للكونية الجديدة، عليها أن تتمسك بالخيار الديمقراطي سياسيا، ذلك أن الإنتعاش الإقتصادي، لا يولد إلا في بيئة سياسية ديمقراطية. ثالثا: على الصعيد الإجتماعي تراهن الليبرالية الجديدة على الحرية الفردية. ولابد من مراعاة أن هذه الجزئية في الليبرالية الجديدة مختلف عليها، بمعنى أن النموذج الغربي لا يزال في حال حراك معرفي وثقافي حاد، في سبيل الوصول لنقاط إتفاق تختص بمدى القدرة على المراهنة المعرفية بالنسبة لمفهوم الحرية الفردية إجتماعيا، لابد من التنبه الى أن تيارات عدة في التجربة السياسية الأميركية "خصوصا التيار الجمهوري" أخذت أخيرا تزيد من تشكيكها في القبول بالحرية الفردية كمعيار إجتماعي. لا أعتقد ان السياق العربي لليبرالية الجديدة، يعيش الأفاق ذاتها في النموذج الغربي، لذلك تجد الليبراليين الجدد منكبين على الإقتصاد بحرفنة جيدة، ويتناسون الأبعاد الأخرى في الليبرالية الجديدة، وهي الديمقراطية والحرية الفردية، أو هم في الحقيقة يوظفونها في ما لا تحتمل، عبر تكتيكات تتسم بالتجاوز، والغريب هو أن تجد بعض مثقفي السلطة في الدول العربية يزايدون ويراهنون على الليبرالية الجديدة، مع أن الليبرالية الجديدة إن وجدت أفقا للتطبيق، فإنها لن تقبل بنماذجهم وخياراتهم ومجمل تجاربهم، لأنها أولى النماذج معاداة للديمقراطية! فبعض "المتلبرنين الجدد"، هم أعداء لليبرالية، لا أبناءها الطائعين! وفي مقالة سابقة، تعرضت إلى الصورة الجديدة للنظام العالمي الجديد، والذي يعتمد على الإقتصاد، وعلى عسكرة الإقتصاد، خصوصا بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر. وبما أن البعد السياسي والإجتماعي في الليبرالية الجديدة، هو وليد اشكالات مفاهيمية كبرى، فإن الليبرالية الحديثة الغربية تعتمد بشكل مطلق على حركية السوق، ومصلحة السوق، بإعتبارها النقطة الأساسية في تحديد الخيارات البشرية، إقتصادية أم سياسية أم إجتماعية أم ثقافية، إذ تعطي للسوق الأولية الأولى في قيادة التحولات الكبيرة الراهنة. صحيح أنها تنتج خطابا سياسيا يتحدث عن الإصلاحات السياسية والإجتماعية حين توجهه الى الدول العربية مثلا، إلا أن الرمز المنتج للخطاب السياسي، هو السوق، وإن كان لحوادث سبتمبر الحضور الذي لابد أن يستهان به، وهنا نجد المعضلة في فهم "المتلبرنين العرب" لليبرالية الغربية الجديدة.
يذهب المفكر الفرنسي آلان تورين، إلى نقد الليبرالية الجديدة، ذلك أنها تنزع عن الإنسان "إنسانيته"، وقدرته على التحول والتطور والتغيير، داعيا إلى إعادة الثقة بالإنسان وبالقدرة الانسانية، وأولوية الحل الاجتماعي مقابل وحشية السوق والاقتصاد والاستسلام لهما بطريقة تشل الارادة. الليبرالية الجديدة كتطور تاريخي للرأسمالية، تلتصق بالعولمة، وترث منها إشكالياتها كافة، بمعنى أن صورة التعامل مع الليبرالية الجديدة، تكاد تكون ذاتها صورة المجتمع الكوني في صراعه مع العولمة، فثمة قبول تام، يمثله الليبراليون العرب الجدد، وخيارهم هو الاستسلام مطلقا لما تمليه الليبرالية الجديدة، مع الإدعاء بأنهم "نتاج معرفي"، لا نتاج يأس مرحلي وتجارب فاشلة. وثمة مقاومة سلبية، وتتمثل في المخنوقين داخل كهوفهم الغابرة، من أيديولوجيات غائرة في التقادم والرجعية، وثمة رؤية ثالثة، تعتمد على رؤية آلان تورين الذاهبة إلى ضرورة خلق "مقاومة إيجابية" لهذه الليبرالية الجديدة. المقاومة الإيجابية لا تعتمد على التلفيق، بمعنى أنها لا تتبنى الصورة الهزلية في بعض الخطابات العربية، مثل "نأخذ ما ينفعنا، ونترك ما لا نريد"، فالتجاذب مع هذه الليبرالية الجديدة الغربية، أمر محتوم، والمفهوم الاتصالي لا يستثني ما ينتج عن المرسل إليه تجاه المرسل، والمعنى الذي أود الوصول اليه هو أننا في التعامل مع الليبرالية الجديدة لنا ثلاثة أنماط من ردود الفعل، أولا: الرد المباشر، وثانيا: ردة الفعل، وأخيرا الرد الإستباقي. وفي كل فعل من الأفعال يصدر عنا كمستقبلين، فإن الليبرالية الجديدة لها أفعالها، وردود فعلها، وأفعالها الاستباقية. إن خيار "المقاومة الإيجابية" لابد أن يكون رحبا، ومؤشكلا، لابد من حال كوثرة للمفاهيم والقراءات السياسية والمعرفية والثقافية، بما يتعاطى مع الليبرالية الجديدة، بعناصرها الثلاثة، ولابد من إعادة الثقة بالإنسان، بوصفه قادرا على الحراك والإنتاج وإيجاد الحلول. لا بوصفه ناقلا أو وسيطا، فارغ المحتوى مكتمل الإطار. الظاهر لنا اليوم، أن "المتلبرنين العرب الجدد"، هم ناقلو أفكار، لا منتجين حقيقيين لها، لذلك فهم عاجزون عن إنجاز خطاب معرفي متكامل ومتصل وصلب، مثلهم في هذا، كبائع الصحف الجاهل بالقراءة والكتابة، فتجدهم خطباء سياسيين، قد يبدعون في سرد الذرائع لتبرير خياراتهم، إلا أنهم عاجزون فعلا عن التوضيح أو التشكيك أو التفكير بخياراتهم. حين يراهن الفرنسي تورين على الإنسان، فإنه يراهن على المنتج والمفكر، عن الإنسان بوصفه ذلك الكائن القادر على أشكلة المفاهيم وإعادة ترتيب رموزها، وهو لا يراهن على قوم أغلقوا دفاترهم وأسكتوا عقولهم، واستوردت عقولهم ما لم يتفق عليه الغرب حتى اليوم، في أكبر خيانة تاريخية للنص. * كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 941 - الأحد 03 أبريل 2005م الموافق 23 صفر 1426هـ