هناك الكثير من الكلام يمكن قوله بمناسبة رحيل الحبر الأعظم عن سدة الفاتيكان ورأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم. الكلام كثير عن البابا يوحنا بولس الثاني وخصوصا أنه نجح في كسر تقاليد اشتهرت بها البابوية، وأسهم في تأسيس عادات جديدة من الصعب التراجع عنها بعد رحيله. إلا أن الكلام عن البابا يمكن تقسيمه إلى دائرتين: الدين والسياسة. وإعادة ربطهما في منهج امتازت به الكنيسة في فترة تاريخية شديدة التعقيد والخطورة. كذلك يمكن تقسيم سياسة البابا إلى فترتين، الأولى: حين تولى المنصب ودخل في مرحلة تحالف مع الولايات المتحدة، وخاض معركتها ضد الشيوعية والاتحاد السوفياتي "امبراطورية الشر بحسب أوصاف الرئيس الأميركي رونالد ريغان". والثانية: حين انهار الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي في أوروبا الشرقية، وبدء نمو الاختلاف في رؤية العالم بين الفاتيكان وواشنطن. مسألة الدين والسياسة والمنهج الذي اتبعه البابا في السلوك العملي والقراءة النظرية تختصر الكثير من الكلام عن أهمية هذا الحبر الأعظم، وصعوبة اكتشاف البديل عنه في الزمن المحدود. هذا البابا خاص جدا لعناصر مختلفة اجتمعت لديه، منها المكان الذي جاء منه "بولندا"، والظروف التي عانى منها وواجهها في حياته المدنية والدينية، وأخيرا الفضاءات الدولية التي عاصرت لحظة اختياره على رأس الكنيسة الكاثوليكية. كل هذه العناصر مجتمعة صنعت هذا البابا الفريد من نوعه. فهو اهتم ببلده الكاثوليكي الذي كان يعاني من التسلط الدكتاتوري والهيمنة السوفياتية إضافة إلى أزمة اقتصادية خانقة ترافقت مع تراكم ديون وصلت إلى 40 مليار دولار. فالبابا الشاب آنذاك "60 سنة" تحرك لإنقاذ بلده من أزمة معقدة انفجرت في تظاهرات سياسية قادتها النقابات البولندية. التحرك جاء في الوقت المناسب إذ كانت بريطانيا "ثاتشر" وأميركا "ريغان" تقودان معركة ايديولوجية شرسة ضد الكرملين، وتحتاجان إلى تغطية دينية من البابا لإعطاء تلك الحرب قدسية لا يتمتع بها ريغان أو ثاتشر. وأدى لقاء المصالح إلى تشكيل جبهة مضادة للشيوعية بدأت خطوتها الأولى في بولندا، وانتقلت منها إلى دول المعسكر الأخرى التي أخذت تسقط كأحجار الدومينو واحدة بعد أخرى. انتهت المعركة الايديولوجية ضد الشيوعية والمعسكر الاشتراكي و"امبراطورية الشر" في مطلع تسعينات القرن الماضي، لتبدأ معركة جديدة ضد الإسلام بصفته العدو البديل والطرف الذي تحتاجه أميركا وحليفها البريطاني لتبرير استمرار الحلف الأطلسي وما يحتاجه من صناعات حربية وآبار نفط ومصانع أدوية واختلاق مشكلات واختراع أزمات. وفي هذا الاتجاه اختلف البابا مع الثنائي الشرير "ريغان - ثاتشر"، معتبرا أن معركته انتهت وانه لن يكون ذاك الغطاء الذي تبحث عنه واشنطن ولندن لتبرير سياستهما الدولية الجديدة. وهنا بدأت دائرة الدين تتغلب على دائرة السياسة، كذلك أخذ الجانب الآخر من البابا يظهر على ذاك الذي اتصف في فترته الأولى بالعداء للشيوعية والحكم الاستبدادي في بولندا. اتصفت الفترة الثانية بنزعة أكثر إنسانية وحكمة وشجاعة، وأظهر البابا قوة شخصية أثارت إعجاب العالم بمختلف اديانه ومذاهبه وأقوامه. فالحبر الأعظم رفض التورط في "حروب دينية" تخطط لها كتلة شريرة في مبنى "البنتاغون". كذلك قاد الحبر الأعظم سلسلة حملات مضادة لتلك الحروب المختلفة التي خطط لها جورج بوش الابن بالتعاون مع طوني بلير. أسهمت مواقف البابا المتسامحة ودعواته المتكررة إلى وقف الحروب وعدم استخدام الدين لتغطية المصالح، وتمسكه الدائم بالحوار الحضاري بين المسيحية والإسلام في فضح الكثير من الخلفيات الاقتصادية والمطامع الاستراتيجية لحروب واشنطن ولندن ضد الشعوب المستضعفة والدول الفقيرة والضعيفة لضمان أمن "إسرائيل" والنفط. لم يتردد البابا في كشف سياسات أميركا وتوضيح رؤيته للعالم بعد زوال الشيوعية والخطر السوفياتي. وأدت تصريحات البابا وسلوكه الشخصي وجولاته المتعددة لمختلف دول العالم الثالث "104 زيارات" إلى كسر الصورة النمطية عن البابوية، وتأسيس ملامح صورة من الصعب نسيانها بسرعة لأن موضوعاتها متعلقة بالإنسان وحاجاته والطبيعة والبيئة ومستقبل البشرية وتعايشها وتطورها، وهذه كلها نقاط مشتركة وموضع اهتمام كل الناس على اختلاف أشكالهم وألوانهم. غياب البابا عن المشهد العالمي سيخلف سلسلة فراغات سياسية ارتبطت تقليديا بقيادة هذا الرجل التاريخي. فالعالم عرفه بحكمته وشجاعته وخبرته، وهذا يحتاج إلى وقت ليحتل مكانته المميزة أي بابا جديد
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 941 - الأحد 03 أبريل 2005م الموافق 23 صفر 1426هـ