ثمة ضوء في آخر النفق، ثمة أمل في إعادة وصل ما انقطع، على رغم الصورة القاتمة التي يرسمها المشهد العراقي الراهن. ..". هذا ما كان يردده ثلة من النخب العراقية الوطنية الأصيلة التي التقيناها في الشارقة على هامش ندوة العراق ودول الجوار التي نظمها مركز الخليج للأبحاث. إذا كان صحيحا - لمن يعرف عن قرب - ان نظام صدام حسين كان شكل ظاهرة استثنائية فريدة إلى حد كبير في التأسيس للقمع "المؤسسي" المنظم لكل أطياف الشعب العراقي وتاليا ساهم بشكل مؤثر وعميق في تفكيك عناصر "الوطنية" العراقية، فإن الصحيح أيضا أن الغزو الأجنبي المنظم ثقافيا وفكريا وسياسيا وعسكريا ساهم ولايزال في تدمير ما تبقى من تلك "الوطنية" باعتبارها الهوية الجامعة. ليس هناك أغلى من الحرية لدى الفرد أو الجماعة في أي مكان أو زمان في هذا العالم. والعراق ليس استثناء، فاذا ما تكررت ظاهرته قد تسبب النتائج السوداوية والمظلمة والقاتمة نفسها لأي مجتمع يبتلى بها. ثمة عمل منظم يسهل رصده على أكثر من مستوى تقوم به القوى الطامعة في مقدرات بلادنا ومنطقتنا العربية والإسلامية هدفه الرئيسي "تفكيك" الهويات القائمة وإعادة تشكيلها من جديد على أسس وقواعد "الرأسمالية المتوحشة" ومنافعها ومصالحها اللامحدودة. والعراق لن يكون استثناء بالنسبة إليها. بالدفاع عن الحريات المتعددة، وفي مقدمتها حرية التعبير والعقيدة والانتماء، الفردية والجماعية يمكن صون "الهويات" المحلية الوطنية المهددة بمشروع التفكيك وإعادة الهيكلة المفصلة على رغبات التوسعيين والطامعين القادمين من وراء البحار. إن كل أدوات وآليات "المجتمع الأهلي" يمكنها أن تلعب دورا فعالا ومؤثرا في الدفاع عن تلك الحريات وتاليا عن تلك الهويات الوطنية المحلية. قد ينظر البعض من أهل العلم والمعرفة و"التنوير" في بلادنا إلى تلك الأدوات والآليات بمثابة آليات أو أدوات أو وسائل "بالية" أو متخلفة أو رجعية نظرا إلى تقدم العصر وزحف ما بات يسمى بالوسائل والأدوات والآليات "المدنية" وفي مقدمتها ما بات يعرف بالمنظمات "غير الحكومية" التي تطالب بحقوق الإنسان عموما والمرأة والطفل "والأقليات" خصوصا سواء المذهبية أو العرقية أو القومية. لكن سيخطئ هؤلاء بالتأكيد ان تخلو هذه المؤسسات وبشكل طوعي ونهائي عن مؤسسات وآليات المجتمع الأهلي "القديم" وفي مقدمتها المؤسسة الدينية بتفرعاتها الكثيرة وتمظهراتها المختلفة وفي طليعتها الجامع والمسجد الكبير. لقد ظل الجامع والمسجد الكبير الحصن الحصين في الدفاع عن كل أشكال حرية الانتماء والعقيدة والتعبير خارج سيطرة الحاكم أو السلطة المستبدة. الشيء نفسه قد ينطبق أيضا على مؤسسة العشيرة والقبيلة و"الجماعة" المحلية في المناطق والريف بل وحتى المدنية. من لا يصدق ذلك، فليجر المطالعة العلمية الرصينة ليتأكد بنفسه كيف أن انهيار أي مؤسسة من مؤسسات "المجتمع الأهلي" المذكورة كان بمثابة المقدمة لاستبدال تلك المؤسسة بمؤسسات "مدنية" قمعية كانت المقدمة الطبيعية أو اللبنة الأساسية التي استندت إليها المؤسسة الاستبدادية البديلة التي خنقت الحريات المتعددة في بلادنا. لن تجدي المقارنة نفعا هنا بين سياق التحول الذي جرى في الغرب في هذا السياق مع سيرورة التحولات في بلادنا، فالشرق شرق والغرب غرب وليس هنا مجال للتفصيل في هذا الحديث. إن هذا لا يعني مطلقا الدعوة إلى الإبقاء على كل ما هو قديم من وسائل وآليات ورفض كل ما هو جديد من وسائل وآليات بتاتا! بل إن خلاصة هذه الدعوة تقول إن المطلوب الانتباه مبكرا إلى التصدعات التي تحصل داخل البيت "الوطني" وترميم وإصلاح الخلل قبل فوات الأوان بأدوات ووسائل وطنية ومحلية ناجعة، حتى نتمكن من الاستفادة أو الاستعانة عند اللزوم بكل ما تقدمه تجارب الآخرين لنا من أدوات وآليات باعتبارها روافد مساندة تقوي دعائم ما لدينا من دفاعات وتحصينات. والا فإن البديل سيكون ضياع الأصل والبديل السند معا. أزعم بجد أن "الحزب" لن يستطيع ان يشكل البديل للعشيرة أو القبيلة أو الجماعة فضلا عن الجامع والمسجد الكبير أو اي شكل من أشكال تنظيم الجماعة في بلادنا. وانه لا مستقبل لأي "حزب" في بلادنا وكذلك لا مستقبل لأي تجمع "مدني" أو "مديني" ما لم يكن استمرارا طبيعيا ومتواصلا مع مؤسسات "المجتمع الأهلي" ومعجونا بروحها. وانه في غير ذلك، فإن الخيار سيكون التبعية إلى الخارج "تأسيسا" للبديل أو "تخريبا" له. أي في التأسيس لما يصبح فيما بعد الدولة الاستبدادية القطرية التي شهدتها وتشهدها بلادنا العربية والإسلامية. وأيضا المشروع البديل "التخريبي" الذي يعلن معارضته لتلك الدولة المستبدة. وأزعم هنا أيضا أن العراق ليس استثناء، صحيح ان التجربة كانت قاسية وقاسية جدا في العراق. لكن ذلك قد يكون هو نفسه المسار في لبنان أو سورية أو مصر أو السعودية أو إيران أو تركيا أو ماليزيا أو أي بلد شرقي آخر إذا لم تدرس التجربة العراقية بعناية بالغة وبتعمق وتأمل قبل خراب "بصرة" الجميع. * رئيس منتدى الحوار العربي الايراني
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 940 - السبت 02 أبريل 2005م الموافق 22 صفر 1426هـ