إن هناك توجها نحو تخلي الدولة عن دورها الحمائي، من خلال سياسات جديدة تعتمد آليات السوق. الوزير مجيد العلوي ضرب مثلا للسياسة الحكومية التي كانت تحاول أن توفر فرص عمل للمواطنين في القطاع الخاص، ففرضت قرارات عليه لأجل توظيف المواطنين، فأدى ذلك إلى تدني وتخلف إنتاجية هذا القطاع. ولمواجهة مشكلة البطالة المتفاقمة، حدد العلوي هدفين: أولا: اعتماد القطاع الخاص محركا أساسيا للنمو الاقتصادي. ثانيا: أن يمتلك المواطنون المؤهلات والمهارات المطلوبة ليكونوا الخيار المفضل للقطاع الخاص. "هذه أهم نقاط خطاب وزير العمل في ورقته بمؤتمر العمل العربي في الجزائر، في الفترة بين 12 - 19 فبراير/ شباط الماضي ونشرته "الوسط" بتاريخ 23 فبراير". يأتي الخطاب في ظل وجود مشكلة وطنية تتمثل في تعطل أكثر ما بين 18 إلى 30 ألف مواطن قادر على العمل، بينما القوة العاملة الأجنبية تقدر بـأكثر من 60 في المئة من مجمل القوة العاملة في البحرين. والخطاب يأتي منسجما مع محاور الحل الذي تقدمت به ماكينزي في محاوره الثلاثة: إعادة هيكلة الاقتصاد، إصلاح السوق، إصلاح التعليم.. والسؤال المهم: هل يمكن أن تحل مشكلة وطنية، تعتبر طارئة من دون تدخل الدولة؟ نقول طارئة، وذلك لوجود هذه الأعداد الضخمة من القوى العاملة الأجنبية، ووجود الكثير من القطاعات التي يمكن أن تؤدي دورا يخفف من هذه المشكلة وتداعياتها الاجتماعية بنسبة كبيرة ولو آنيا، مثل القطاع العسكري الذي يعج بمختلف الجنسيات، وهو يقدم رواتب مجزية هي محل رغبة الكثير من المواطنين. لا أحد يشك بأن المسئولية المباشرة لهذه المشكلة، تقع على الحكومة، فهي التي تحملت مسئولية التشريع والتنفيذ طيلة الحقب الماضية، ولا يمكن تبرئة ساحتها من أكبر مسببات البطالة، فلاتزال مشكلة التمييز تحرم قطاعات واسعة من الشعب من فرص العمل والخروج من ربقة الفقر والحرمان، ومن هنا من السذاجة استبعاد العامل السياسي من مشكلة البطالة. يقول المدير العام لبرنامج الأمم المتحدة الانمائي، مارك مالون براون: "إن الفقر يمكن أن يكون مشكلة سياسية. ويظهر تقرير 2003 للتنمية البشرية، أن ثمة بلدانا عدة، إذ مستويات الدخل عالية بما يكفي لإنهاء الفقر المدقع؛ ولكن حيث لاتزال هناك جيوب من الفقر الأشد وطأة، غالبا بسبب أنماط مقلقة من التمييز في توفير الخدمات الأساسية". إن حل مشكلة وطنية طارئة من دون التدخل في السوق، ودعوى أن الاقتصار على توفير القوانين والآليات التي تضمن تلقائية عمل السوق، يحتاج إلى كثير من التأني والتأمل، ذلك أن التدخل في السوق والنشاط الاقتصادي يتعلق بالظروف، والظروف هي التي تقرر مدى تدخل الدولة، وهذا ما أثبتته التجربة التاريخية في بعض أكبر الدول التي تتبنى اقتصاد السوق الحر، حتى ان بعض الدول الرأسمالية الرائدة، كادت أن تكون ذات اقتصاد موجه تماما. وكان وضع الولايات المتحدة وبريطانيا، حتى ما قبل الحرب العالمية الأولى، قائما على عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، إلا أن اندلاع الحرب الأولى، وبسبب نقص السلع الغذائية والمواد الأولية، والمنازعات العمالية، دفع الحكومة البريطانية مثلا للتدخل بشكل كبير في النشاط الاقتصادي، "حتى أصبحت الحكومة، تضع يدها على الجزء الأعظم من منتجات القطاع الصناعي الخاص، كما تعطلت - إلى حد كبير - قوى السوق نتيجة لتدخل الدولة بتحديد أسعار جبرية للسلع الاستهلاكية وتوزيعها بالبطاقات بين المستهلكين". ثم ان اقتصادنا الوطني لايزال اقتصادا مختلطا، وتتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وتمارس الإنتاج بشكل مباشر، فهناك عدة شركات ضخمة تملكها الدولة، كشركة نفط البحرين "بابكو"، وبنوكو "سابقا" والتي اندمجت أخيرا مع بابكو، أو تشترك الدولة في ملكية أكثرها، مثل شركة غاز البحرين "بناغاز".
#مقترحات ماكينزي والتمييز#
وفيما يتعلق بالحلول التي تقدمت بها دراسة ماكينزي لحل مشكلة البطالة على المدى البعيد، فقد أثيرت عدة إشكالات حولها، وأكثر المقترحات التي كانت موقع جدل وقلق، هي مقترح فرض رسوم جديدة على أصحاب الأعمال. وتتمثل في رفع كلفة العامل الأجنبي بفرض رسوم تتساوى مع ما تطمح له الحكومة من الحد الأدنى للراتب الذي سيدفعه صاحب العمل للمواطن، وبذلك سيقبل رب العمل على توظيف المواطنين من دون الحاجة لتقييد استيراد العمالة الرخيصة من خارج الحدود ولا شيء من هذا القبيل. وفي حالتنا هذه، فسيتم فرض رسوم ترفع كلفة العامل الأجنبي لما يقارب 220 دينارا شهريا. وهناك الكثير من التساؤلات بشأن جدوى ذلك الإجراء، ومنها أن السوق تحتاج إلى عمالة تفوق العاطلين عن العمل بما يزيد على أربعة أضعاف، لذلك فإن مثل هذا التعميم لا يعد إنصافا. ثم هل هذا الإجراء كاف لثني بعض الشركات الكبيرة التي تنتهج نهجا تمييزيا، وهل ستردعها هذه الرسوم وهي التي دأبت بسبب النزعة الطائفية على تفضيل الأجانب برواتب تفوق مرات حلم الحكومة "220 دينارا" كحد أدنى للبحريني، وهي رواتب لا يحلم أكثر المواطنين البحرينيين من ذوي الكفاءة نفسها بالحصول على نصفها. من جانب آخر، ما هي الآثار المتوقعة على حياة المواطن المعيشية، سواء صغار أصحاب الأعمال أو المواطن العادي؟ هل وضعت الحكومة في اعتبارها احتمال أن تهرب الكثير من الشركات إلى دول الجوار بدل تكبد خسائر الرسوم الجديدة؟ هل ستصمد المؤسسات التي يملكها صغار رجال الأعمال، أم سيؤول أمرها إلى الخسارة والإغلاق لعدم قدرتها على المنافسة مع دول الجوار؟ ثم ان الدولة ملتزمة باتفاقات إعفاء جمركية مع الجوار، وحتى في السابق كانت تعفى المنتجات المحلية من تلك الدول من الضرائب، فمن المتضرر في هذه الحال؟ ولنأخذ مثالا بسيطا: صاحب ورشة لصناعة أبواب الحديد المطاوع، يبيع الباب الواحد بخمسمئة دينار، ولديه عدد من العمال الأجانب، فكم سيصبح سعر الباب الواحد إذا ارتفعت كلفة الأيدي العاملة إلى أكثر من 200 دينار؟ هذا إذا افترضنا أن راتب العامل الأجنبي 100 دينار. ومن المتضرر هنا؟ أليس هو المواطن الذي أصبح في غضون ثلاث سنوات فقط عاجزا تماما عن شراء قطعة أرض فضلا عن بنائها، بعد أن أرتفع سعر القدم في غالبية المناطق إلى أكثر من 400 في المئة خلال هذه الفترة. ومن المتضرر الآخر... أليس هو صاحب الورشة؟ وهل سيتمكن من الصمود إذا قامت الورش الموجودة في المملكة العربية السعودية بتوفير هذه البضاعة بسعر أرخص بكثير وبالجودة نفسها؟ وهي قادرة على ذلك لعدة أسباب، كحجم السوق الكبير هناك، إلى جانب ان العمال الأجانب هناك لا يكلفون نصف ما يكلفون هنا في حال إقرار هذا الإجراء. وهل الحكومة تعبأ بحماية صغار رجال الأعمال؟ إن قضية أصحاب الحافلات تعمق القلق تجاه خطط الحكومة، فهؤلاء تتعطل حافلاتهم عن العمل في الوقت الذي تدخل عشرات الحافلات السعودية لنقل أكثر من 1000 معتمر أيام عاشوراء. وما فائدة أن تملأ جيوب الفقراء بدنانير زيادة عن الوضع السابق، فبدل 150 دينارا يصبح راتب المواطن 220 دينارا "وياله من طموح"، ولكن مقابل أن تهبط القوة الشرائية لهذا المبلغ. ولماذا تهبط القوة الشرائية؟ أو ليس من سياسة الحكومة المقبلة ألا تتدخل في السوق؟ فمن له حق أن يمنع التاجر من أن يرفع ثمن خدماته وبضائعه ليحافظ على مستوى أرباحه كما كانت قبل قرار فرض رسوم رفع كلفة العامل، العامل الذي ارتفعت كلفته أكثر من 100 في المئة ووصلت الكلفة إلى 220 دينارا. إذ، أين فائدة هذه الدنانير التي قد تصبح يوما ما بعد تنفيذ هذا القرار قد فقدت الكثير من قوتها الشرائية قبل القرار؟ إن الحال هذه لا تفرق كثيرا عما يحدث في الكثير من الدول، فكلما زادت الحكومات الضرائب على الشركات وخصوصا الاحتكارية منها، كلما رفعت هذه الأسعار بما يفوق ما زاد من كمية النقود في معاشات المواطنين، فضلا عن الفقراء الذين يعيشون على الضمان الاجتماعي. وإذا كانت المشكلة سابقا تختص بفئة العاطلين، فبعد القرار ستشمل غالبية السكان، ليصبحوا في عداد الفقراء بسبب الغلاء المتوقع، فالشعب من الآن أكثرية فقيرة في عدد من متطلبات الحياة الأساسية، فغالبية الشعب غير قادرة على تملك مسكن مثلا، فهل سيؤول حالنا إلى ما عليه بعض الدول التي يحلم المواطن فيها بوجبة لحم، ويعتاض عنها بالفول والعدس؟ * كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 939 - الجمعة 01 أبريل 2005م الموافق 21 صفر 1426هـ