لابد أن أحد مستشاري الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب حذر من سلاح الإعلام قبل أن تقود بلاده حملتها العسكرية ضد العراق في العام . 1991 لذلك انتشرت الشائعات بأن قوى ائتلاف الحرب ستستخدم قنابل ذكية تستطيع اختراق نوافذ الوزارات في بغداد. ثم كشفت القنابل الذكية عن غبائها واخترقت ملجأ العامرية، إذ أوقعت مجزرة رهيبة. كانت الولايات المتحدة بصدد تجنب الوقوع في أخطاء حرب فيتنام التي لم تتعاف منها في ذلك الوقت، إذ إن صور الضحايا من المدنيين الفيتناميين والأهوال التي تعرضت لها مدنهم وقراهم حركت الشعب الأميركي ودفعت به إلى الشارع للاحتجاج على الحرب والمطالبة بوقفها. وعانت سمعة العسكرية الأميركية طويلا بسبب حرب فيتنام إلى أن وقعت هجمات سبتمبر/ أيلول. وهو الحادث الذي كان دافعا كي يأمر الرئيس بوش الابن، الجيش الأميركي باجتياح أفغانستان لتدمير معسكرات التدريب التي أقامها تنظيم "القاعدة"، عقب إعلانه ما يسمى الحرب المناهضة للإرهاب. في إطار هذه الحرب قرر بوش لاحقا توسيع الحرب لتشمل العراق بعد أن استعان هو ومجموعة صقوره، بأدلة كاذبة لتبرير الحملة العسكرية الثانية على العراق. واتهم بوش نظام صدام حسين بالتعاون مع "القاعدة"، كما أقنع غالبية الشعب الأميركي بأن العراق يملك أسلحة دمار شامل. وذهب حليفه في أوروبا، رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، إلى أبعد من ذلك حين أعلن أن بوسع العراق شن هجوم بأسلحة الدمار الشامل على بريطانيا خلال 45 دقيقة! في نهاية مارس/ آذار 2005 يعرف العالم كله أن هذه الاتهامات كانت من الاكاذيب لتبرير الحملة العسكرية والسيطرة على منابع النفط في العراق ومرابطة الجيش الأميركي على مسافة قريبة من إيران وسورية. واختلطت الأوراق من جديد في العالم العربي، فنظام صدام انهار في طرفة عين. لم يكن بوش الابن ليحصل على تأييد واسع داخل بلاده لولا مساندة أجهزة الإعلام الأميركية. فخارج الولايات المتحدة وخصوصا في أوروبا الغربية حيث أبرز حلفاء واشنطن، عارضت الجماهير الحرب واضطرت حكومات وقفت في صف بوش للمجازفة بمصيرها. ففي إسبانيا حصل تغيير حكومي وانتهى عهد المحافظ خوسيه ماريا أثنار في العام .2004 ولم يجرؤ المستشار الألماني غيرهارد شرودر على المغامرة بإرسال جنود ألمان إلى الحرب لأن مئات الآلاف من الألمان نزلوا إلى الشوارع معربين عن رفضهم للحرب. ولم يختلف الأمر بالنسبة إلى فرنسا. في المقابل تم الكشف عن مدى اعتماد الإدارة الأميركية على دعم أجهزة الإعلام الأميركية في التمهيد للحرب وخلالها. ولأول مرة تم إدماج مراسلين لوكالات الأنباء والتلفزيون والصحف مع وحدات الجيش الغازية. وحين سئل بوش في الشهر الماضي في مؤتمر صحافي إذا كان يؤيد حصول صحافيين على رشا من الحكومة الأميركية أجاب: لا. ولم يكن دافع الشخص الذي وجه السؤال بحث موضوع التحيز الذي مارسته أجهزة الإعلام الأميركية والبريطانية خلال الحرب وإنما كان يشير إلى قضية المعلق التلفزيوني الأميركي أرمسترونغ وليامز الذي حصل على 240 ألف دولار من وزارة التعليم ليروج لسياسة التعليم التي طرحها بوش وتعرضت لانتقادات. ولم يكن وليامز الإعلامي الوحيد الذي ينتفع ماديا من إدارة بوش، ففي اليوم الذي نفى فيه بوش منح إدارته رشا لإعلاميين أميركيين كشفت صحيفة "واشنطن بوست" أن المرأة التي توصف بخبيرة شئون المتزوجين ماغي غالاغر حصلت من وزارة الصحة على 41 ألف دولار للترويج لموقف بوش حيال التقاليد العائلية. كما حصل المعلق مايكل ماكمانوس على عشرة آلاف دولار للإشادة في كتاباته بسياسات بوش! وتشير المعلومات إلى أن إدارة بوش نجحت في بسط نفوذها على وسائل الإعلام، إذ لا يمكن الحديث عن صحافة أميركية حرة بمعنى الكلمة. ومن أبرز الأدلة على خسارة رئيس قسم الأخبار في محطة التلفزيون الأميركية المتعاطفة مع إدارة بوش، منصبه في الشهر الماضي بعد أن نقل عن لسانه أن الجنود الأميركيين تعمدوا إطلاق النار على الصحافيين في العراق. وكما تم تجميل حرب العراق الأولى حرصت إدارة بوش على تجميل الحرب الثانية، من خلال برنامج وضعته وزارة الدفاع بضم ستمئة مراسل مع وحدات الجيش، وبذلك ضمنت نشر تقارير خالية من الانتقادات، وتركز على القدرات العسكرية الهائلة للقوة العظمى. وكشفت عملية استطلاع أجرتها مدرسة الاتصالات التابعة للجامعة الأميركية اعتراف الصحافيين الأميركيين بأنهم اضطروا إلى كتابة تقارير تشيد بالغزو وبقدرات الآلة العسكرية الأميركية، وبذلك صرفوا النظر عن الحقائق المهمة بشأن دوافع الحرب والتحقيق في الأدلة التي ثبت عدم صحتها، فضلا عن معاناة المدنيين. وعقب الكشف عن فضيحة تعذيب المعتقلين العراقيين في سجن أبوغريب أجرت مدرسة الاتصالات استفتاء سريا شارك فيه ستمئة من الصحافيين والمصورين الذين انضموا لوحدات الجيش الأميركي، وجرى التأكيد على عدم نشر أسمائهم. وكتب أحدهم إجابة جاء فيها: "في إطار القوانين التي كتب علينا أن نتمسك بها عدم الإشارة في تقاريرنا إلى ما يمكن أن يقزز نفوس القراء من الحرب، وخصوصا عدم التعليق على صور القتلى بين المدنيين". وكتب صحافي آخر إلى مدرسة الاتصالات: "كنا نحاول أن نجعل الصور ممتعة إلى حد ما لكي نجعل الحرب مثل فصل من فيلم مسل. وحين عدنا إلى الولايات المتحدة بلغنا أن الكثير من القراء احتجوا على محاولات منح الحرب وجها جميلا. ووفقا لاعتراف غالبية المشاركين في الاستفتاء قاموا بعد إرسال تقاريرهم وصورهم بمناقشة إمكان الكشف عن صور بشعة وخصوصا صور تعذيب المعتقلين. غير أن مديري التحرير في وسائل الإعلام كانوا يختارون الصور التي لا تشير إلى شراسة الحرب، وكانوا يختارون صور الجنود العراقيين وهم يرفعون الراية البيضاء مستسلمين للجنود الأميركيين. وقررت أقسام التحرير قبل بدء الحملة العسكرية على العراق العمل بما بلغها من أوامر من الحكومة بعدم نشر ما يثير مشاعر الرأي العام الأميركي. ولأن محطة تلفزيون "الجزيرة" بثت صور الجنود الأميركيين الأسرى والقتلى في العراق، فقد ثارت حفيظة المسئولين في واشنطن وراحوا يشيرون إلى قانون الصحافة الذي تجاهلوه بأنفسهم حين وضعوا خطط الحرب! واعترف 42 في المئة من المصورين بأنه قيل لهم مسبقا إن صور جنود قتلى الجيش الأميركي أو من جيوش التحالف لن تنشر، وكذلك بالنسبة إلى صور الأسرى. كما اعترف 15 في المئة من الصحافيين بأن أقسام التحرير عدلت الكثير من نصوصهم التي أرسلوها من مناطق القتال. وتوصلت مدرسة الاتصالات إلى نتيجة هي أن التغطية الإعلامية في الولايات المتحدة لحرب العراق الثانية لفقت الحقائق وجعلت الثقة تضعف بدور وسائل الإعلام الأميركية، وأن الحقيقة كانت في مقدمة ضحايا هذه الحرب
العدد 938 - الخميس 31 مارس 2005م الموافق 20 صفر 1426هـ