حذر السيد محمد حسين فضل الله من أن الإدارة الأميركية التي فشلت استراتيجيا في العراق تحاول أن تكسب تكتيكيا في المنطقة، وأنها جعلت لبنان محطتها الفضلى، بعدما سرعت الأخطاء التي ارتكبت فيه لتعبيد الطريق أمام المشروع الأميركي. وقال إننا بتنا نشهد مقايضة سياسية أفسحت في المجال أكثر لأميركا للعبث بالمسألة اللبنانية بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة، محذرا من أن الخطة تسعى إلى الإمعان في السيطرة أكثر ولايجاد مستنقعات سياسية واقتصادية وربما أمنية تنمو فيها بؤر التوتر والاضطراب والانقسام. جاء ذلك في ندوته الأسبوعية عندما سئل عن رؤيته للأمن على مستوى لبنان والمنطقة، فأجاب إجابة مستفيضة قائلا: "ركز الإسلام اهتمامه على حفظ الأمن العام للأمة على المستويات الاجتماعية والسياسية والنفسية والاقتصادية والصحية وغيرها، فحرص على إشاعة أجواء الاطمئنان الأمني بالتركيز على الجانب النفسي والاجتماعي لجهة صوغ علاقات متوازنة تحفظ المجتمع وترعى سلامه الداخلي من خلال إجراءات تنطلق من استبعاد سوء الظن لتصل إلى الحكم بحسن الظاهر وإسقاط التهم والتهديدات التي قد تنطلق جزافا ضد المجموعات البشرية الحزبية أو السياسية أو الطائفية. وتعاطى الإسلام مع الأمن الاقتصادي للناس كأولوية غير قابلة للمساومة، فسعى إلى ضبطه من خلال منظومة من الأحكام التي حرمت الاحتكار ونبذت الاستغلال ورفضت سرقة أموال الناس وأكلها بالباطل، ورافق ذلك إنزال العقوبات وملاحقة المسيئين لهذا الأمن على المستويات كافة. فالأمة ليست بحاجة إلى ما يصطلح عليه بالأمن الخارجي فحسب، بل إن الإنسان في أمس الحاجة لأمن على مستوى الذات وعلى مستوى احترام القيمة الأخلاقية والإنسانية. لقد جعل الإسلام الحاكم في موقع المساءلة والمحاسبة إذا أخفق في حماية الأمن العام للناس، من حيث انه أناط به مسئولية حفظ هذا الأمن مركزيا، وجعل شرعية الحكم والسلطة مرهونة بمدى قيام الحاكم بتحقيق أمن الأمة السياسي والاقتصادي وغيره، ونجد الأولوية القصوى التي حث عليها الإسلام في كثير من النصوص كما في عهد الإمام علي "ع" لمالك الأشتر عندما ولاه مصر: "وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، فإن من طلب الخراج "الضريبة" بغير عمارة فقد أهلك العباد وخرب البلاد..."، إذ ينظر الإسلام إلى عمران البلاد كأولوية حاسمة على مستوى الإدارة السياسية والاقتصادية. وهنا تكمن مسئولية الحكام في أن يلتفتوا إلى الوضع الاقتصادي وخطورة انعكاس أي تدهور فيه على الوضعين السياسي والأمني، وعلى أساس أن الناس عندما تفرغ من مشكلاتها الاقتصادية تنصرف إلى أداء مهماتها الاستراتيجية في مسألة التفكير بمستقبل الأمة ورقيها بين الأمم. واعتبر الاسلام أي خرق للأمن خطا أحمر، ولم يتشدد في نظام عقوباته في شيء كما تشدد على الذين يخلون بالنظام العام للأمة، ولذلك أراد للأمن الإعلامي - إذا صح التعبير - أن يواكب ذلك في حركة وسائل الإعلام أو في الابتعاد عن الخطاب المتشنج، إذ إن الحرص على الأمن الاجتماعي يتلازم مع الحرص على أن يكون هناك أمن في الخطاب السياسي والإعلامي بالابتعاد عن كل ما يثير الحساسية والعصبيات في الأداء السياسي العام. إننا، وفي إطار رصدنا لما يجري في المنطقة، نلاحظ أن الإدارة الأميركية خلقت أجواء متوترة في كل مكان، وجعلت الاهتزاز السياسي والأمني والنفسي جزءا من المخطط العام الذي أعدته للمنطقة وأثارت حفيظة المجموعات السياسية الإثنية والطائفية، وجعلتها تتحفز على أساس أن ثمة دورا ما ينتظرها أو على أساس ترتيب أوضاعها الخاصة بما يتناسب مع المشروع الأميركي في المنطقة، الأمر الذي جعل الثقة تهتز بين هذه المجموعات في أكثر من موقع وأطل بها على مرحلة من الاضطراب السياسي العام غير المسبوق بالنظر إلى شموليته وامتداده. لقد أصبحت هذه الإدارة مشكلة للعالم كله بعدما جعلته أقل أمنا وأكثر اضطرابا، وتدعي العكس، وأفسحت في المجال لولادة حال إرهاب جديد من خلال الساحات التي وفرتها له والمناخات الأمنية التي أوجدتها والمجازر التي ارتكبتها والمقدسات التي دنستها وحقوق الشعوب التي هضمتها كما في العراق الذي تحول إلى ما يشبه المذبحة المتحركة. وهي إنما تحركت لتسكين الجرح الفلسطيني لا على أساس إعادة الحقوق للفلسطينيين، بل للتفرغ لمأزقها في العراق ولدفع العرب إلى التطبيع الكامل مع العدو من دون إحراج كبير مع شعوبهم. إننا نحذر من أن أميركا الإدارة التي فشلت استراتيجيا في العراق وتحاول أن تكسب تكتيكيا من خلال سياسة الممالأة مع بعض المحاور الأوروبية، باتت تفكر في أن تجعل لبنان محطتها الفضلى في المنطقة، فأميركا التي سقطت في التجربة العراقية في جعل العراق نموذجا للمنطقة أو جسرا تعبر إليه بالعناوين الطنانة والرنانة كالحرية والديمقراطية وما إلى ذلك، وجدت في لبنان ساحة أفضل بعدما سرعت حركة الأخطاء السياسية التي ارتكبت من تعبيد الطريق للمشروع الأميركي الذي يحط رحاله هذه الأيام في غير موقع لبناني. ونحن نعرف أن المواقع الأوروبية الكبرى التي رفضت أن تتعرض أميركا لهزيمة كاملة في العراق تحت عنوان مواجهة ما يسمونه بـ "الأصولية"، هي التي مهدت السبيل أكثر أمام أميركا للعبث بالمسألة اللبنانية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وبتنا نشهد نوعا من المقايضة السياسية في لبنان والمنطقة قد تطل على صفقات على حساب الكيانات أو المواقع السياسية، في الوقت الذي توحي بالسعي إلى الوحدة ودعم كل تحرك يستهدف السيادة والاستقلال وما إلى ذلك. إننا نحذر اللبنانيين من أن هذا الإصرار على الإفساح في المجال للقوى والمحاور الدولية والإقليمية إلى العبث أكثر بالمسألة اللبنانية سيدخل البلد في لعبة المصالح الدولية التي تجهد لإحداث توترات طائفية للإمعان في السيطرة أكثر ولإيجاد مستنقعات سياسية وأمنية وربما اقتصادية جديدة تنمو فيها بؤر الاضطراب وتتصاعد فيها حوافز التفرقة والانقسام والتمزيق. ولذلك فإننا ندعو الجميع في لبنان، وخصوصا الذين ينتمون إلى تيار الموالاة أو المعارضة والجهات العاقلة والواعية فيهم، إلى السعي إلى خلق مناخات حوارية صحية، والانطلاق بخطاب سياسي مرن وهادئ والعمل على انتزاع عوامل التخويف من النفوس من دون أن يتنازل الناس عن قضاياهم، لأن من لا يتحمل المسئولية في تبريد الأجواء وفي حفظ مصالح الناس لابد أن يدفع ثمن النتائج السلبية التي اقترفها بحق البلد في نهاية المطاف
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 938 - الخميس 31 مارس 2005م الموافق 20 صفر 1426هـ