العدد 3209 - الإثنين 20 يونيو 2011م الموافق 18 رجب 1432هـ

البوصلة المفقودة في رواية «بولقلق» لعبدالله المدني

موسى أبورياش comments [at] alwasatnews.com

.

صدرت رواية «بولقلق» لعبدالله المدني، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، في طبعتها الأولى 2010، في 152 صفحة من القطع المتوسط. تزيِّن الغلاف لوحة لميهاي كريستي من رومانيا. وهي الرواية الثانية للمدني بعد روايته «في شقتنا خادمة»، 2009. ويمكن تصنيفها على أنها من روايات أدب الرحلات، لأنها عبارة عن وصف يكاد يكون تقريرياً لأوضاع البلاد والعباد في بعض دول جنوب شرق آسيا، وهي الدول التي عمل فيها الكاتب ضمن المفوضية السامية لشئون اللاجئين التابعة إلى الأمم المتحدة، لتقصي الحقائق بشأن لاجئي القوارب الفيتناميين في ثمانينيات القرن العشرين.

وعنون الكاتب روايته بـ «بولقلق» ومعناها الوردة باللغة الفلبينية. وفاءً لذكرى أول مغامراته النسائية في رحلته؛ إذ أطلق لقب بولقلق على جوزفينا الفلبينية.

ويحار القارئ هل الرواية تتحدث عن مآسي وآلام ومعاناة لاجئي القوارب الفيتناميين تتخللها مغامرات خالد النسائية، أم تتحدث عن مغامرات خالد النسائية تتخللها حكايات اللاجئين وعذاباتهم؟ ويبدو خالد الشخصية المحورية في الرواية، فهو حجر الرحى وكل الشخصيات الأخرى ثانوية لا قيمة لها إلا بمدى ارتباطها بخالد وعلاقتها به. فهو المصباح الوحيد والبقية فراش يرفرف حوله!

الرواية سردية تخلو من المتعة الفنية، فهي أشبه بالحكايات، مكتوبة بلغة مباشرة بسيطة، تخلو من متعة اللغة وفتنتها وجاذبيتها، تقترب كثيراً من لغة التقارير واللغة الرسمية، ولولا ما تزخر به من أحداث ومغامرات ووصف لتحولت إلى نص ممل منفر! ويعتبر هذا مقبولاً من باحث أكاديمي متخصص في الشئون الآسيوية، استخدم الرواية قالباً لنقل آلام البشر المعذبين بفعل الخوف والرعب والهرب مما يتربصهم، والربط مع حال الخادمات في دول الخليج ممن لا يختلف مصيرهن عن أولئك المهجَّرين بفعل الحرب.

أول ما يلفت الانتباه في رواية «بولقلق» أن خالداً يتعامل مع اللاجئين ومشكلاتهم ومعاناتهم بحيادية وبرود لا يتفق وطبيعة الرجل العربي الشرقي المفعم بالعاطفة، فهو يقوم بعمله بشكل رسمي مجرد دون أن يشعرنا بتفاعله مع هؤلاء اللاجئين، وتعاطفه معهم. لكأنه يتعامل مع عينات مخبرية صماء.

خالد، الذي يفترض أنه مكلف بتقصي الحقائق بشأن لاجئي القوارب الفيتناميين ومتابعة شئونهم، نراه يتنقل بين الفنادق الفخمة وردهاتها ومرافقها وباراتها، ولا يهمه سوى المقارنة بين الفنادق المختلفة، وأين يوجد البار، وماذا تتوافر في الفندق من خدمات، في مفارقة صارخة مع أوضاع اللاجئين المزرية المطاردين بالخوف والمهددين بالطرد والجوع والحرمان والقرصنة. ربما في إشارة ضمنية أن أموال الأمم المتحدة تذهب في معظمها للموظفين الكبار ورفاهيتهم ورحلاتهم، بينما لا ينال اللاجئون إلا الفتات!

ومما يلفت الانتباه أيضاً علاقات خالد النسائية في كل مدينة يحل فيها؛ بل حرصه الشديد على تنوع العلاقات النسائية وعدم التقيد بواحدة ليبقى حراً طليقاً يتنقل من واحدة إلى أخرى. فمن جوزفينا الفلبينية في مانيلا، إلى كريستينا السودية في بانكوك، إلى إنغريد الألمانية في كوالالمبور، ولولا خوفه على سمعته المهنية لتورط في علاقة مع فام اللاجئة الفيتنامية، «خاف (...) من القيل والقال والشائعات التي قد تصل إلى رؤسائه فيعاقب عليها بالإنذارات والتجميد الوظيفي قبل الطرد»(51).

وهو أمر يمكن أن يكون مقبولاً لو كان في الحدود المعقولة؛ بينما هذا التهافت من خالد يسيء إلى الصورة التي يفترض أن يكون عليها موظف أممي كبير، وخاصة إذا كان عربياً مسلماً، لكأنه مكلف بالسياحة والمتعة وتصيد الملذات، إلا إذا كان الكاتب يريد أن يبرز ظاهرة خلع العربي عذاره إذا خرج من بلاده إلى بلاد الغرب أو الشرق، حيث الانفتاح والحرية وتوافر المغريات والملذات من كل صنف ولون ونوع!

ومما يستغرب من خالد وهو المثقف والمتعلم والمتخصص والموظف الأممي الكبير أن ينقلب موقفه من قضايا الأمة بسبب مواقف آنية وظروف خاصة فهو يقول: «أكثر ما آلمه وهو يتابع تطورات الأحداث في منطقة الخليج، موقف الفلسطينيين الذين لم يكتفوا بالخروج إلى شوارع الضفة الغربية وقطاع غزة للرقص وتوزيع الحلوى في كل مرة كان العراق فيها يسقط صاروخاً على رؤوس الأطفال في الخليج، وإنما تظاهروا أيضاً تأييداً لأفعال النظام العراقي مرددين «بالكيماوي يا صدام ... من تل أبيب إلى الدمام».

منذ تلك اللحظة القاسية، غير خالد أفكاره. تبدلت مشاعره وتوجهاته السياسية. لم تعد قضايا مثل الوحدة العربية وشعارات مثل القومية العربية وتحرير فلسطين واستعادة القدس ومعاداة الإمبريالية، تعني له شيئاً. كانت تلك الأشياء غذاؤه الروحي ونشيده اليومي منذ نعومة أظفاره، لكن جحود أصحابها ومكنون قلوبهم السوداء اللذين كشفت عنهما تداعيات غزو الكويت، افقدتاه الإيمان بها.»(91)

لا ينكر أحد أن العاطفة لعبت دوراً كبيراً في تلك الفترة، وخاصة عند الشعب الفلسطيني المحتل الذي وجد في قصف المدن اليهودية بالصواريخ عملاً خارقاً عجز عن فعله الآخرون. ولا يوجد مبرر أن يغير خالد موقفه من فلسطين والقومية العربية والقدس والإمبريالية لمجرد فورة عاطفية من فئة قليلة، فالقناعات الفكرية لا تغيرها ظروف آنية، أو شعارات أو عواطف، وخاصة نحن نتحدث عن فترة مظلمة مضطربة اختلطت فيها الأوراق، وادلهمت الخطوب، واختلط الحابل بالنابل، وعمَّ الضباب، وغابت الرؤية. وفي هكذا أحوال يجب أن يعذر بعضنا بعضاً، ويعاتب بعضنا بعضاً برفق. ومن واجب الكاتب أن يجمع ولا يفرق، ولا داعي للإشارة إلى هذه النقطة بالذات لما تسببه من حساسيات، ونكئ للجراح، وخاصة أن تجاوزها لا يؤثر على بناء الرواية وصدقيتها من قريب أو بعيد.

مما يسجل للرواية هذا الوصف المفصل للطبيعة وصفات الناس وأحوالهم وأوضاح المهجرين الفيتناميين في كل من الفلبين وتايلند وهونغ كونغ وماليزيا؛ ما وفر للقارئ وجبة دسمة من المعلومات الطبيعية والجغرافية والتاريخية والسياسية. وأشارت الرواية إلى الأوضاع السياسية في كل من الفلبين وتايلند؛ إذ حدثت أزمات سياسية نتيجة الثورة الشعبية في كل من البلدين ضد الحكومات المستبدة. كما أشارت الرواية إلى غزو صدام حسين للكويت وإخراجه منها على يد قوات التحالف.

الدرس الذي استفاده خالد من مهمته مع لاجئي القوارب أنه ربط بين أوضاع هؤلاء اللاجئين وخادمات المنازل في دول الخليح والعمالة الآسيوية فيها، فعمل بعد عودته إلى وطنه إلى تأسيس منظمة وطنية للدفاع عن خادمات المنازل وفاءً لذكرى صديقه عبدالرحمن الذي كان يؤرقه هذا الموضوع، وسرعان ما اجتذبت منظمته عشرات القصص التي تفيض بؤساً ومعاناة وعذاباً!

ومما يلفت الانتباه علاقة خالد بالعرب والمسلمين، فقد كانت متوترة جداً وعدوانية مثلها سعد في الفلبين الذي نافسه على جوزفينا، حيث استطاع سعد بحيله أن يتزوجها ومن ثم طلقها بناء على طلبها.

والثاني عبدالكريم في ماليزيا حيث استاء خالد من أفكاره المتطرفة، وبدلاً من أن يناقشه ويحاوره ويحاول تغييره قام بطرده والتخلص منه. في موقف سلبي يسجل عليه، ولا يتوافق وشخصيته المتنورة والمتعلمة.

وبعد، لم ينجح عبدالله المدني في إقناعنا بمهمة خالد ولا تفاعله معها، ولا سلوكياته المتحررة وخاصة من رجل في مكانته، كما لم ينجح في إمتاعنا فنياً، ولم يكن للغة الجميلة وجود في الرواية. وأظن لو كان خالد قريباً من اللاجئين الفيتناميين، وشعر حقيقة بمعاناتهم، وتعاطف معهم، لكان أقرب للقارئ ووجدانه. ومع ذلك تبقى «بولقلق» تجربة تستحق القراءة، ولا تخلو من فائدة

إقرأ أيضا لـ "موسى أبورياش"

العدد 3209 - الإثنين 20 يونيو 2011م الموافق 18 رجب 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً