قبل أربعة أيام من الآن (16 يونيو/ حزيران 2011) أجرت صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية (العدد 11888) مُقابلة مع رئيسة التلفزيون المصري، الإعلامية المعروفة نهال كمال. وسُئِلَت هذه المسئولة عن تقييمها للتغطية التي قدَّمها التلفزيون المصري لأحداث الثورة في مصر فقالت إنها «كانت (تغطية) منفصلة بشكل كامل عما يحدث في الواقع، وأدت إلى انصراف المشاهد المصري إلى قنوات أخرى للبحث عن الحقيقة» سَمَّتها وقيَّمتها ما بين موضوعية ومُبالِغة.
نهال قالت ما هو أهم من ذلك عندما تحدثت عن أزمة الثقة بين التلفزيون المصري وبين مشاهديه بسبب انحيازه التام والكامل للنظام السابق وللحزب الوطني، وموقفه السلبي من ثورة 25 يناير/ كانون الثاني، بأن «التلفزيون المصري بدأ تدريجياً في استعادة ثقة المشاهد عندما بدأ في تقديم بث حي للمليونيات من ميدان التحرير، وقدَّم تغطية شاملة لها طوال اليوم، وليس فقط في الفترات الإخبارية، حيث تعامل مع الأمر باعتباره الحدث الأهم المسيطر على مصر كلها».
نهال ذكَرت شيئاً غاية في الأهميّة عندما تحدثت عن بعض موظفي التلفزيون المصري الآن (به 43 ألف موظف) ومدى تفاعلهم مع التغيير الذي جرى في مصر بعد 25 يناير، بأن «هناك عقليات اعتادت أن تكون موجَّهَة وتابعة للنظام، وعندما نقول لهم فجأة إنكم أصبحتم أحراراً فبعضهم لا يستطيع استيعاب الموقف ويحتاج إلى بعض الوقت لذلك، والتلفزيون المصري مثل شخص حُبِسَ لسنوات وفجأة أطلق سراحه، فسيحتاج إلى فترة للتأقلم على وضعه الجديد، فهو يتنسَّم هواءً جديداً تماماً، ونحن الآن على أعتاب عصر إعلامي جديد».
ما قالته رئيسة التلفزيون المصري يُؤكِّد مدى انفصال الإعلام العربي عن شواغل الناس. التونسيون لم يكونوا يُتابعون قناتهم التلفزيونية الرسميّة أثناء الأحداث التي سبقت سقوط نظام زين العابدين بن علي؛ لأنها كانت قناة تلميعية لسلطته. والمصريون (وهو موضوع المقال) لم يكونوا يتابعون قناتهم التلفزيونية الرسميّة إبَّان مظاهرات ميدان التحرير المليونية لأنها كانت غير موضوعية وأكثر انحيازاً للنظام السابق. أما الليبيون فوضعهم أسوأ مع الزنقة زنقة وإفاضات الكتاب الأخضر الذي ساواه صاحبه بنظريات آدم سميث وأوغست كونت الفلسفية الغزيرة، في حين أشاح اليمنيون بوجوههم عن تلفزيونهم الرسمي الذي لا يفتأ عن عرض جموع من اليمنيين وهم يهتفون باسم علي عبدالله صالح، وهو حال السوريين أيضاً الذي لم يستطع تلفزيونهم الرسمي تشبيه النازحين من جسر الشغور إلى الأراضي التركية سوى أنهم زائرون لأقارب لهم في الجانب التركي من الحدود ولا شيء غير ذلك!
أتحدث هنا عن التجربة المصرية لأنها كانت الأكثر جلاءً ووضوحاً وكانت موضع متابعة مني. فعندما كان ميدان التحرير في القاهرة يعجُّ بالمتظاهرين كنت أشاهد التلفزيون المصري للمراقبة الصحافية فقط لأرى موقفه مما يجري من تظاهرات. كان هذا التلفاز لا يفتأ من شَنِّ حملات التشويه بالمتظاهرين، واختلاق الأعذار العديدة للنظام المصري وللحزب الوطني الحاكِم ولقوى الأمن التابع له من دون أن يعلم أن ما يقوم به من ابتكار لهذه الأعذار المتوالية هو الأقل إقناعاً من وزن عذر واحد كما كان يقول الكاتب الإنجليزي ألدوس هكسلي.
كان يُؤتَى بنقيب الصحافيين المصريين السابق مكرم محمد أحمد ليتحدث بلا انقطاع وبجانبه صورة مباشرة لمظاهرة صغيرة مؤيِّدة لنظام حسني مبارك. لم يُوفِّر الرجل شيئاً إلاّ وقاله ضد المعتصمين وقيادات المعارضة، ولم يزِد حديثه عن أن «مَصْر غير تونس! مَصْر خمسة وتمانين مليون، وإذا لم يتم الاستقرار العاجل، سوف تكون هناك سَوْرَةْ جِياع، وسوف لن يكون هناك خبز، 20 بالمِيَّة مِنُّه بيُعاني من الفقر، من فضْلُكُوا لا تخنقوا مِصْر، من فضْلُكُوا لا تدمِّروا مستقبلها، لأن مستقبلها مِشْ مُلكُكُوا».
في برنامج «الحياة اليوم» في التلفزيون ذاته ظهرت إحدى الفنانات القديرات لتقول منتقدة حركة الشارع في ميدان التحرير «احنا منهارين! تعرَفِي عَشَرْة أيام يعني إي؟! أنا بِنت أخُويَ بتؤول: نِفسِي آكُل بيتزا، نِفسِي آكل كَبَاب ابن أخوي بيؤول، دَا طفل عمره سنتين، مفِيش، كُلُّه آفِل، حتأكِّلِيْهم إي؟! أطفال دُوْل». بالتأكيد لست هنا في موقع التبرير أو النقد لهذه الفنانة التي لا تحسد على ما قالته اليوم بسبب ما آلت إليه الأوضاع من تبدّل، وإنما النقد كله هو على التلفزيون المصري الذي كان يبحث حينها عن مثل هذه النماذج المتفاجئة بالحدث والتي لم تكن تمتلك البوصلة بعد ويتقصَّاها لكي يتمترس خلفها ويُورطها في هكذا أحاديث.
في برنامج «مصر النهارده» يخرج مذيع مع زميل له. يقول أحدهم بتهكّم: الإخوان المسلمون دخلوا على خط التظاهر فدخلت معهم أجندة خاصة مرتبطة بمؤامرة خارجية. ثم تأتي للمذيع قصاصة ورق من المخرج مكتوب عليها «إصابة أربعة ضباط و36 عسكرياً في أعمال شغب حصلت مع المتجمهرين في ميدان التحرير، استشهد أحدهم (العسكريين) بعد إصابته في الرأس».
تأتي مداخلة أخرى مكتوبة لشخص آخر اسمه عاطف السيد حسنين يقول فيها «دُوْلْ كَمْ (المتظاهرين) من شعب عَدَدُه تمَانِيْن مليون! معؤول واحد يعبِّر عن مليون؟! نِفسِي يروحوا المدن الصناعية ويشوفوا الرِّجَّالة المصريين بجَد، هُمَّ دُوْلْ المصريين، الشباب دَهْ لو عايز مَصْر يِدَوَّر على ازَّاي يبنيها مِشْ يِهِدِّها».
أكثر ما يُؤسَف عليه هو أن تصِل مثل هذه التلفزيونات العربية إلى هذا الحَد من المستوى الإعلامي السيء. فمنذ قرنين ومنظومة الاتصال باتت تتخطى الاعتماد على الشبكات الفيزيائية المادية وتجترح البدائل الإلكترونية كعوض عنها، ولكن بالارتكاز على المجتمع كوحدة عضوية مثلما شرَّعها كلود هنري دي سان سيمون (1760 – 1825). أما في عالمنا العربي وعلى رغم التقدم التكنولوجي فإن شأن الإعلام مازال مهووساً بخدمة السلطة وحدها التي هي بالأساس سلطة أوليغاركيّة يتسيَّد عليها قلَّة من البشر، وبالتالي فإن الخدمة الإعلامية هي فقط خادمة لهذه القلَّة.
مصر التي تشربنا ثقافتها ولهجتها الدارِجَة منذ أن كنا نتلقى تعليمنا صغاراً في الابتدائية على أيدي مُعلِّميها وأنهينا تعليمنا الجامعي على أيدي أساتذة منها بارعين نراها وقد وصل الحال بها أن تستنّ بهذا الإعلام الضعيف الذي لا يتناسب وحضور الشعب المصري وملكاته وطاقاته. والحال كذلك ينسحب على الكثير من الدول العربية التي نسَت أن لديها أجيالاً صاعدة وقطاعات هائلة من الناس لا تريد لغة خشبية، ولا العيش بمثل ما عاش فيه الأقدمون. فإذا كانت موضات الملابس ووسائل الراحة تتطور فكيف بالسياسة وممارساتها.
أقصى ما يتمناه الشاب العربي اليوم وهو المكنوز بالحيوية والنشاط أن يرى نفسه مُمَثلاً في إعلام بلده من دون أن يُنظر إليه بغير ما يحمل من هموم وميول وتطلعات وآمال ورغبات كبيرة أو صغيرة، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو في الثقافة بل وفي كل المجالات، فأجمل الأشياء هي تلك التي يقترحها الجنون ويكتبها المنطق كما كان يقول الكاتب الفرنسي أندريه جيد
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3208 - الأحد 19 يونيو 2011م الموافق 17 رجب 1432هـ
شكرا لكم
تحليل جميل وموفق
بين أجمل الأشياء وأسوأ الأشياء تضيع عقول الشباب والأجيال ...... ام محمود
الشباب العربي يتمنى أن يرى اعلام راقي نزيه محترم يمثل بلاده في جميع المجالات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية و (السياسية) ولكن ما نراه الآن يعتبر فشل للاعلام مع ان هذه الدول العربية تمتلك الأموال والكفاءات (43,000 موظف) عدد هائل في التلفزيون المصري ولكنه يغرد خارج السرب فهو مثل فيلم أحمد زكي الذي كان بعنوان ( أنا لا أكـــــــذب ولكن أتجـــــــمل)
ولكن كل عمليات التجميل والمكياج فشلت وظهرت الصورة القبيحة جدا
ما هو العلاج ؟ لقد آن أوان اصلاح ما أفسده العطار
ومشرط الطبيب
عفوا
عفوا افكرة لم تصل الى من هو معني بالاعلام لانها لو وصلت لتغير الاعلام في مهاجمة الشريحة الاكبر في البلد ولوقف اتهامتهم بكل ما هو نقي بالعمالة للخارج
صح السانك
...........
الفكرة واضحة
الفكرة بها وضوح ونصح وارشاد وتجاوب في الطرح مع الاحداث التى نعيشها واعتقد انها أوصلت الى هدفها بدون سرد في اسفاف مرة اخرى شكر لك .
يفقد الإعلام أبناء بلده إذا ابتعد عن همومهم
فعلا كل المصريين والتونسيين ضرب عرض الحائط بينهم وبين تلفزيونهم الرسمي لأنه ينقل وجهة نظر واحدة ملّو من سماعها طوال عقود فماذا سيأتي بجديد
هذا هو التحدي لأجهزة الإعلام في الوقت الحاضر إذا أرادت أن تكن عالمية مرموقة تنال الإهتمام الداخلي والخارجي لا بد أن تواكب التطور الحاصل بالعالم
السير على النهج القديم يزيدها بعدا عن الناس ويصبح بثها للهواء فقط بدون أي جدوى مقابل ملايين تصرف
والمردود صفر
فاسمعي ياجارة
قلمك على العين و الرأس
تسلم أناملك
فكرتك وصلت
شكرا من القلب
فاعتبروا يا أولي الأبصار
وصلت الفكرة شكرا
الحياة درس وعبر
وصلت الفكرة شكرا