الثقافة والنقد القائمان اليوم على الزجر يؤصلان لسلطة بغيضة. سلطة ترى أن المدى والأفق لا يسعان إلا صوتها، والمدى والأفق المذكور مرجعه رؤيتها وعند بصرها ينتهي!
الزجر من حيث هو سلوك وموقف ينطلق من أنه اليقين والمثل الأعلى والأب ومحط الحكمة ومنتهى الدراية والخبرة ومعرفة دخيلة موضوع الزجر وطرفه.
مثل هذا اليقين مشفوعاً بروافد توفر له الغطاء وترفده بالسطوة والمال لا يتراجع ولا يكف عن دوره؛ ما دام على تماس مصيري مع المؤسسة الرسمية. ومثل ذلك التماس يدفعه إلى مزيد من ابتكار أساليبه ومداخله وإحاطته وترصده وتقصيه لنماذج لا تحتاج المؤسسة الرسمية إلى أن تنتخبها تمريراً لتناولها كي تمعن في تسفيهها وتقديمها إلى المحيط الذي تتحرك فيه باعتبارها منبع الخطر وأصله!
تلك غلبة قائمة اليوم في مفاصل حياتنا الثقافية الإبداعية العربية عموماً؛ لكنها ظاهرة ومعاينة في طبيعة الذين يمسكون بزمام المشروعات الثقافية الكبرى ويتصدون لها؛ ليس فقط على مستوى المؤسسات الثقافية التي تصر على أنها مستقلة فيما حبل سرتها مآله ومرده إلى عناصر تغذية تتولى تفاصيلها المؤسسة، ومثل ذلك الحبل لا يتخلَّف ويوجد ويمارس فعله إلا بالشرط والتوجيه.
مثل تلك الثقافة التي تمْتح في واقع الأمر من فرز وضبط للثقافة التي تريدها المؤسسة أن تشيع في المكان الذي تهيمن عليه تمارس دور الوحش عبر النصوص وبعقيدة الزجر تلك تتمثل - بل هي كذلك - مراكز الحجز والتوقيف!
يكفي القليل من المسح في خريطة بعض النقد الأدبي اليوم الذي تتصدى له مجموعة من حرس المؤسسات الرسمية في الوطن العربي في تعاطيها مع الأصوات العالية في احتجاجها ورفضها؛ بل وخروجها على شريعة المصادرة القارة في سلوك تلك المؤسسات؛ لتعرف حجم ومساحة الزجر؛ ليتعداه إلى التخوين والتسخيف والخروج على اللائق من المعنى وهشاشة المبنى!
ذلك النوع من الثقافة في زجره هو في حقيقته مشروع لتدمير الذات الخلاقة ... النابهة ... الراصدة... القلقة... الباحثة... التي تواجه أساليب متجددة في محاولة اغتيالها وفي أقل تقدير،
تحجيمها وإخراسها؛ وإحلال الذات الخانعة... المستسلمة... المتلقية... المرصودة... المدفوعة بحوافز الهشاشة!
ومن شواهد ثقافة الزجر في التعاطي مع مشروع تدمير ذات الأصوات الخلاقة ... النابهة ... الراصدة ... القلقة والباحثة عن مواطن الخلل في الأمة؛ ليس على مستوى مشروعها النقدي؛ بل مشروعها الإبداعي عموما من شعر ومسرح وموسيقى وغناء وفنون بصرية في محاولة خلق مناخ يؤسس لفداحة مصطنعة.
فداحة مجمع عليها في مشروع تلك الثقافة؛ مدعومة بالمؤسسة الرسمية. فداحة بحسب مفهومها من حيث تعريتها لمواطن الخلل والاستحواذ وتعريض النخب إلى الارتهان لشرطها وإملاءاتها ومنابع إغراءاتها. أقول فداحة مجمعا عليها بإيهام المحيط الذي تتحرك فيه تلك المشاريع الإبداعية الحرة والفاعلة والمؤثرة والخلاقة في المجتمع؛ بأنها مشاريع هدم واستئصال وتوجه إلى تحويل طرف استقبال تلك المشاريع إلى معادن خرساء يتم تشكيلها ضمن رؤى منحرفة وغائبة عن مقتضيات الضرورة لدى الأمة؛ تنال من عقيدة المحيط وأسسه وثوابته وما أجمع عليه العرف والذوق والأخلاق؛ عدا سيل من التأويلات التي تدفع وكلاء ثقافة الزجر والمتصدين لتعميمها إلى الوثوق في قدرتها على تعرية قيمة أي مشروع مضاد لها. قيمة فنيته وأسلوبه ورؤيته ولغته وقدرته على الإضاءة ورجرجة المشاريع الأخرى الممجدة... المادحة الخالعة على الانحراف صفة الاستواء؛ والوهم صفة المعاينة والبصيرة؛ والوهن صفة المعدن الذي لا تقهره النار؛ استهبالاً للمحيط ذاته الذي يعي أن المؤسسة الرسمية تظل كل تلك العناوين عدا مضامينها آخر همها!
عليكم ملاحظة أن بعض تلك الأصوات التي تصدت لدور الزجر في الثقافة العربية اليوم كانت في مفتتح مشروعاتها تؤكد في أكثر من موقع ومناسبة ضرورة النأي بالمثقف عن التمجيد باعتباره فرداً ضمن قارَّة من الخلق والدهشة؛ فيما الدور الذي تمارسه اليوم يرتد ليمجد دورها الإقصائي؛ وبمعنى آخر ونهائي ملموس، تمجيد المؤسسة الرسمية التي تلقمها المواقف كما تلقمها خطاب الزجر ونص تبرير كل ما يصدر عنها من دون التجرؤ على مساءلته؛ أو حتى التشكيك في نزاهته وقيمته!
ثمة هوس بالمرايا المشروخة التي تهبها المؤسسة لمثقف برسم تحريك مواقفه ورؤيته وتعاطيه مع قضايا محيطه والعالم كما تحرك عصا بعيراً نسي أن يعلف بالشرط وينام بالشرط ويصحو بالشرط؛ وذلك زجر أعمق إهانة يطال مثقفي الزجر! زجر في العمق من المهانة والذل والاستحواذ على روحه! وماذا بعد الاستحواذ على الروح؟
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 3208 - الأحد 19 يونيو 2011م الموافق 17 رجب 1432هـ