تظل مخذولاً حتى من اللغة أحياناً وأنت تحاول قراءة العالم من حولك. على الأقل عالمك الذي تتحرك وتتنفس وتبصر وتقرأ وتجادل وتُقمع فيه!
تذهب إلى الضروري من اقتباس الشواهد. التاريخ علامة فارقة في حاضر يحتضر؛ ومستقبل في مهب رياح وغيوم لا طاقة لك في التحكم بها.
ترى الرمادي شارتك في أوطان تمعن في المحارق؛ تهديداً بالرماد! الشعر يأوي إلى ركنه القصي. لا كلام ولا تأمل تتيحه لك الكوارث. ثمة ذهول «يفرمل» العقل ويخُضع الروح؛ حتى الروح إلى جلسات مساءلة واستجواب عما حدث ويحدث!
صفات الليْلَك هي الأخرى في مهب العدم! والأقمار التي تعوِّل عليها كي تسامرك في أوقات فرحك وضجرك تحزم حقائبها باتجاه عتمة لا خرائط تفضي إليها.
ثمة التباس اليوم؛ بل هو قلق على مستقبل اللون من حولنا؛ لأنَّ البشر باتوا خارج المعادلة. الحمامة التي تنتظر هديلها على الشرفة كي تؤثث صحوك حل مكانها الكُحلي والأسْوَد والغراب. حتى الكحْل بات علامة شؤم! حين تصبح مثل تلك الرموز في الوعي الانقلابي والطارئ شارات نهايات وعذاباً علينا أن نحضِّر الفراغ كي يكون السيد المطلق ويشرع في هندسته الفادحة!
وحدها الطواويس بألوانها المستفزة والباذخة قادرة على مسايرة ومجاراة المرحلة؛ لأنها في كثير من الأحيان ليست برسم الذبح أو القنص أو تناسل الفخاخ!
في زمن عربي عاجز عن النهوض - بحكم التركيبة التي تتولى هدر مصائره - وسيلة حواره التصفية والرصاص، وحدائقه الأسوار المغلقة وضوؤه الارتطام اللانهائي؛ تبحث عنك في كل هذا الانهيار العصبي وحتى النصي عبر حصار يطال كل شيء؛ فقط لترفع عقيرتك احتجاجاً على الانحطاط والهدْر والهجرات ومواهب الدفن؛ وسيأتيك الرد قبل أن يرتد إليك طرفك في أساليب لا ترقى إلى طبيعة الجنس البشري!
تعتب على اللغة التي ربتك. ربت روحك ومنحتك متكئاً كي ترتفع قليلاً عن الأرض؛ لترى العالم من شرفتك التي أردت؛ لكن اللغة ذاتها بحاجة هي الأخرى إلى شرفة تطل عليها لتتقصى غيم الناس وصحوهم، وتذهب في تتبع سندباد وهم كل منهم؛ وخصوصاً الذين لم يتح لهم عوزهم فرصة مغادرة القرية التي غادرتها الطيور الأليفة ليحل محلها المعدن؛ ومهرت بالوحشة من ضنك البؤس!
لا بأس؛ سأستدرك مفتتح النص؛ لا تخذلك اللغة. اللغة ذاتها تعاني خذلان الذين تركوها في مهب الدواوين والعراء المصادر و «العرائض» ونصوص الاستجداء. خذلت اللغة بفقه التفاهة والنكران وصقيع من الإهمال وسيادة القبح والنظر إليها باعتبارها سلَّماً يصل إلى أكبر قدر من قطف حرام وعنف الغنائم!
لا تخذلك اللغة كلغة؛ بقدر خذلان الذين يمعنون في هتك روحها ومروءتها والنبل الفائض فيها بما تمنحه من قيمة ومعنى وتثبيت للإدراك الحقيقي المتعلق بقيمة الإنسان الحارس لأسرارها وطاقتها وقدرتها الفارقة!
في زمن عربي مبتلى بمن يحدد وجهته وهو في الضلال ضالع من دون بوصلة أو خرائط. في زمن عربي يهين العائلة بامتياز؛ كما يهين خادمة قذفت بها الفاقة إلى ما وراء الحدود لتعود إلى وطنها إما بغصة أو عاهة أو تابوت! لا يمكن للشمس أن تجازف بكل وهجها الأخاذ أمام هذا البرود اللاإنساني الخارج على شريعة الفطرة لدى الأشياء قبل البشر؛ كي تجازف برهن طاقتها لمرابٍ لا يفرِّق بين سعال أمه وفرملة سيارة مسرعة لحفيد لص في شارع جانبي!
في زمن عربي إعلامه متورط بنص فضيحته قبل فضائح الآخرين، في مشهد بائس. ذلك الذي يرضع من الزيف وتعميم الكراهية والتأصيل للضلال في خيارات الأمة والأخذ بيدها إلى محارق بالجملة؛ هو في اللبِّ من هذا التخلف الذي تقام له المهرجانات وحفلات الاستقبال.
وحتى تبني طقوس الطهور! ذلك «الإظلام/ الإعلام» هو في اللبِّ من مأساة مقيمة مزمنة ومعممة لا يراد لها أن تغادر حراسة الوهم والمتاهات التي يتولى إرضاعها والسهر على خيبتها!
أيتها الأوطان التي تذكر بالوحشة: المنافي ليست بذلك السوء الذي تشيعه مكنة الإعلام الرسمي. المنافي أكثر رحمة تتمثل في الفضاء المتاح لك كما هو متاح لدابَّة؛ تضع اعتباراًَ للإنسان وهو خارج دائرة الرصد من دون يقين نصي. أكثر رحمة بعد تسجيل غيابك عن هذا العالم؛ وصولاً إلى القبور الموعودة بالقراءات كل مساء خميس.
من يقرأ بعدها على أرواحنا نحن الأحياء نص النعي الذي يليق بنا في أوطان ليست أوطاناً إلا للطواويس؟
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3208 - الأحد 19 يونيو 2011م الموافق 17 رجب 1432هـ