هذه هي المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية في رأيي، التي تواجه فيها الأنظمة الديمقراطية في أوروبا الغربية تحدياً كبيراً في العمق، يجعلها أمام اختبار حقيقي لمدى صلابة بنياتها التحتية وقدراتها في المحافظة على ماهيتها الجديدة التي صيغت بعد مؤتمر يالطا، وبقائها ضمن سفينة التاريخ البشري التقدمي المرتبط بمواثيق حقوق الإنسان الدولية والالتزامات المحلية والإقليمية والعالمية تجاه الحريات العامة والخاصة والتعددية السياسية والفكرية والدينية والثقافية.
فمنذ أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، بدأت ظاهرة «الإسلامفوبيا» أو ظاهرة «الخوف من المسلمين» في تنامٍ مطرد، دافعة إلى واجهة الحياة السياسية في عدد من الديمقراطيات الأوروبية العريقة، بأحزاب اليمين المتطرف الجديد، أو ما يمكن تسميته أيضاً بموجة «الحركات الفاشية والنازية» الجديدة، التي اعتمدت وسائل عمل متباينة بحسب ظروفها المحلية، لكنها توحدت في شعارها العام القائل إن الوجود الإسلامي في الغرب يشكل تهديداً جديّاً لرفاهية وحضارة أوروبا، وإن السياسة الأوروبية يجب أن تصب من هنا فصاعداً في تحجيم هذا الوجود مرحليّاً، وربما القضاء عليه استراتيجيّاً.
ولعل كثيراً من المحللين والسياسيين الأوروبيين استخفوا في بداية بروز هذه الظاهرة بأمر حركات اليمين المتطرف الجديد، لكن انتصارات انتخابية هنا وهناك في دول أوروبية غربية لم تكن مصنفة ضمن دائرة الخطر الفاشي أو النازي، بدَّلت نظرة هؤلاء وجعلتهم يلتحقون بركب من يدق ناقوس الخطر ويحذر من انحراف خطير قد يمس جوهر القيم الديمقراطية الذي طالما بزت بها أوروبا الغربية غيرها من المجالات الإنسانية حضاريّاً وثقافيّاً وسياسيّاً، ولم يعد مبرراً بحسب هؤلاء تجاهل المسألة، التي تستدعي تضامناً بين التيارين المسيحي الديمقراطي المحافظ والاشتراكي الديمقراطي التقدمي، للحيلولة دون معايشة القارة العجوز حالة عجز وحيرة وخسارة كتلك التي طحنتها خلال النصف الأول من القرن العشرين.
جليد الشمال يذوب: ربما كانت هولندا أول دولة أوروبية في الشمال الأوروبي، تشهد انتصاراً انتخابيّاً كبيراً لحزب يميني متطرف بعد أحداث نيويورك الدامية في مطلع القرن الحادي والعشرين، حيث فازت قائمة الزعيم العنصري الراحل «بيم فورتاون» في تشريعيات 2002 بـ 27 مقعداً في برلمان مكون من 150 مقعداً، ودخل اليمينيون المتشددون الحكومة في إطار ائتلاف لأول مرة في تاريخ البلاد منذ ما يزيد على سبعين عاماً، وعلى رغم أن هذه التجربة الائتلافية سرعان ما انهارت، فإن ما تبين لاحقاً أن ميول الناخب الهولندي المنحرفة لاتزال قائمة، وأن الديمقراطية لم تتمكن من غسل بدنها بأيديها، على نحو المثل الهولندي القائل إن الديمقراطية كالصابون تنظف نفسها بنفسها من أي أدران قد تعلق بها.
وقد بدا منذ بروز «فورتاون» أن كرة الثلج الأوروبية الشمالية بدأت في التدحرج، فيما يشبه التناغم مع حركة الطبيعة وما أفرزه ثقب الأوزون من تداعيات على جليد الشمال الأوروبي الذي بدأ في الذوبان، واتسعت الظاهرة لاحقاً لتشمل الدنمارك التي تمكن فيها اليمين المتطرف من ترؤس الائتلاف الحكومي، والنمسا التي دخل فيها حزب الزعيم الشعبوي الراحل هايدر إلى الحكومة على رغم المقاطعة الأوروبية، وأخيراً السويد التي لم يكن أحد يتصور أن حزباً يمينيّاً متطرفاً سيحرز في برلمانها الديمقراطي العريق عشرين مقعداً.
وفي بلجيكا، هيمن حزب «مصلحة فلاندرا» (الاسم الجديد لحزب الكتلة الفلامانية) ذو الميول الانفصالية وصاحب البرنامج السياسي المتشدد على الحياة العامة في «أنفيرس» أو «أنتفيربن»، وأحرز خلال العقد الأخير ما يقارب ثلث مقاعد برلمان المقاطعة في جميع المناسبات الانتخابية التي نظمت حديثاً، ولم تعد شعاراته مجرد تصريحات مثيرة في وسائل الإعلام بل تحولت إلى مشاريع قوانين تهدد مكاسب الحياة الثقافية المتعددة وحقوق الأقليات والمهاجرين، وخصوصاً منهم العرب والمسلمين.
وأما في هولندا، فبعد ست سنوات من رحيل فورتاون، ظهر في الساحة السياسية نجم يميني متطرف آخر هو خيرت فيلدرز، الذي أحرز تنظيمه السياسي الجديد «حزب الحرية» 24 مقعداً في انتخابات يونيو/حزيران 2010، محتلا المركز الثالث في ترتيب الأحزاب الفائزة، ومشكلا - ولو من الخارج- أحد أطراف الائتلاف الحكومي الذي بدأ الحكم خلال شهر أكتوبر/ تشرين الأول من السنة نفسها، وقيل إن يدا طولى كانت له على برنامج الائتلاف، ما يعني استعداد الحكومة خلال الأشهر المقبلة، لتبني تشريعات قانونية جديدة ستمثل في جوانب منها أطروحات فيلدرز اليمينية المتشددة، المعادية بشدة للمسلمين والممالئة إلى حد كبير لـ «إسرائيل».
وخلاصة القول، إن ما بدا أنه مجرد فقاقيع ظهرت على سطح الماء الديمقراطي في أوروبا الغربية، أضحى اليوم، وفي غضون ما يقارب عشر سنين، وخصوصا إذا ما وضع في الحسبان أيضاً عودة اليمين المتطرف النمساوي إلى البروز مجدداً، بعد أن نال ثلث مقاعد البرلمان النمساوي هذا العام، تياراً سياسيّاً فاعلاً يحلم بنيل السلطة أو على الأقل المشاركة فيها، ويتحرك بكل جدية إلى جعل شعاراته وبرامجه المعادية للأجانب بشكل عام، وللعرب والمسلمين بشكل خاص، تشريعات وقوانين، بل إن الأكثر خطورة في هذا المسار، بروز استعدادات لدى الأحزاب اليمينية والليبرالية الديمقراطية إلى إدماج وتبني بعض هذه الشعارات والبرامج في سعيها إلى استقطاب جزء من ناخبي أحزاب اليمين المتطرف، وخصوصاً ما تعتقد أنه لا يتناقض مع روح الأنظمة الديمقراطية، كما هو شأن تشديد القواعد القانونية الخاصة بالهجرة واللجوء، وتبني سياسات أكثر حزماً مع ظواهر الهجرة السرية وأنشطة الجماعات الدينية المتشددة داخل الأقليات العربية والمسلمة.
الدولة العميقة تتحرك: لقد أظهرت الأحزاب السياسية الديمقراطية، اليمينية واليسارية، في الدول الأوروبية التي برز فيها اليمين المتطرف انتخابيّاً، قلقاً كبيراً وبعض الحزم السياسي في مواجهة هذه الظاهرة، وحاولت جاهدة أن تظهر معارضتها لأي تهديدات قد يتعرض لها مواطنوها المسلمون في حقوقهم الثقافية والدينية، منددة باستغلال ظاهرة الإسلامفوبيا ومحاولة توظيفها من قبل الأحزاب الفاشية والنازية الجديدة سياسيّاً وانتخابيّاً، غير أن هذا السلوك لم يعد كافياً لتمكين الديمقراطيات الأوروبية من تجاوز حقيقي لهذه المحنة بحسب جل الباحثين والمحللين، وخصوصاً مع تواصل أجواء الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تشكل مناخاً ملائماً ومسانداً لحركة الأفكار اليمينية المتطرفة.
بل إن ما يزيد الطين بلة، كما يشير إلى ذلك بعض الديمقراطيين الأوروبيين، هو التقارب الممكن بين شقي اليمين، أي المحافظ والمتطرف، بحجة المساعدة على تخفيف غلواء المتطرفين بحسب الشق الأول، ومن منطلق برغماتي ومرحلي بالنسبة إلى الشق الثاني، ما سيفتح الشهية أمام الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى مزيد من خوض مغامرة الحكم، وبالتالي تحويل ما كان نفسيّاً ينظر إليه بمثابة كارثة، إلى حالة عادية يمكن التعاطي معها وتطويق تأثيراتها الجانبية والأضرار التي يمكن أن تلحقها بالمصالح الوطنية، ليس على الصعيد المحلي فقط، إنما على الصعيد الدولي أيضاً.
وكما جرى في هولندا على سبيل المثال، فقد طلب من حزب فيلدرز العنصري مساندة الحكومة من الخارج، مراعاة لمصلحة هولندا القومية، التي تُعد واحدة من أهم القوى الدولية المتحكمة في النفط العربي، حيث سيثير وجود حزب يميني متشدد شعاره الأساسي المرفوع كراهية المسلمين، حكومات دول عربية معروفة بمحافظتها الإسلامية، وسيعرض مصالح هولندا التجارية الكبرى في العالم العربي والإسلامي لخطر المقاطعة، وهو ما تفهمه هذا اليميني المتشدد ولم يمانع فيه، حيث اختار شراكة الحكومة في الربح ومفارقتها في حال الخسارة.
وفي تجارب أوروبية أخرى، كما هو الحال في الدنمارك أو النمسا أو بلجيكا، تعود حالة القبول بإشراك أحزاب يمينية متشددة بشكل مباشر في الحكم، إلى تقدير سياسي مفاده أن أفضل سبيل لعقلنة هذه الأحزاب والتخفيف من آثار الإسلامفوبيا على المجتمعات والسياسات؛ هو إدخالها في المسئوليات الحكومية، التي ستفضي إما إلى تراجعها عن تشددها ولو بشكل نسبي وإما فضح عجزها أمام ناخبيها من خلال تحميلها النتائج السلبية الممكنة لسياساتها العملية، وفي كلا الأمرين خير للمصالح الوطنية العليا.
ويشير خبراء الشأن الأوروبي، إلى أن تجربة الدول الأوروبية مع الأحزاب الفاشية والنازية قبيل الحرب العالمية الثانية، جعلتها تأخذ احتياطاتها على مستوى ما يمكن أن يسمى بـ «الدولة العميقة» لتطويق أي خطر حقيقي يمكن أن يمس جوهر النِّظام الديمقراطي أو يعرض مصالح البلاد العليا للانهيار، وبالتالي فإن ما يمكن أن ينعت بأنه سلوك متهاون إزاء اليمين المتطرف، ليس سوى مد الطرف وإبداء الصبر وتجريب وسائل سياسية في التعامل مع الظاهرة، غير أنه إذا تبين للدولة العميقة أن هذه الوسائل عقيمة فإنها لن تعدم حيلة في وضع حد للمشكلة من جذورها.
ويضرب هؤلاء مثلاً أقصى بما أقدمت عليه الدولة العميقة في هولندا من فعل إزاء الخطر الذي شكله الزعيم العنصري صاحب الكريزما العالية والشعبية الجارفة بيم فورتاون، عندما لم يعِ التحذير الموجه إليه بوضع مصالح البلاد القومية في الحسبان، فكان مصيره مواجهة عملية اغتيال جسدي مشبوهة، لاتزال الكثير من المصادر تؤكد وقوف أجهزة الاستخبارات الهولندية وراءها، حيث نسب حادث التصفية إلى ناشط بيئي، لم يظفر منه أحد بتصريح واحد إلى غاية اليوم، بما في ذلك هيئة المحكمة التي وقعت عليه عقوبة بعدة سنوات سجن.
ويعزز القائلون بهذا الرأي موقفهم، بما يحدث لخليفة فورتاون «فيلدرز»، الذي يواجه عملية تبدو غاية في التنظيم والتركيز من قبل منابر إعلامية وسياسية، يؤكد كثيرون أنها ستقود إلى تحطيم حزبه من الداخل، في تحذير أولي له، حيث أظهرت إلى الرأي العام في وقائع متواترة عشرات الفضائح الجنحية والجنسية والمالية لعدد كبير من أعضاء حزبه في البرلمان، ولا يستبعد أن تتواصل هذه العملية حتى تحقق أهدافها، وما يستنتج هو أنه سيكون من الغباء السياسي والفكري الاعتقاد بأن الدولة الديمقراطية في أوروبا الغربية، يمكن أن تترك مصيرها ومصالحها الضخمة في مهب نزوات ورياح الحركات الشعبوية وأمزجة قادتها وزعمائها المتقلبة... لكنها تتوخى أن تكون وسائلها سليمة ما أمكنها
العدد 3206 - الجمعة 17 يونيو 2011م الموافق 15 رجب 1432هـ