كنا فيما مضى نطالب الحركة الإسلامية بأن تحسن نوعاً من الفقه يسمّى فقه المرحلة، حتى تستطيع أن تواكب المتغيرات المتسارعة من حولها، وتتأقلم مع إفرازاتها وتلبس لها لبوسها، وهو فقه يبقى مطلوباً منها على طول الوقت، أما الآن وقد تسارعت الأحداث أكثر وزادت وتيرة التحولات، ما يحتم على الحركة الإسلامية أن تحسن نوعاً آخر من الفقه أدق وأعمق من فقه المرحلة يمكن أن نسميه فقه اللحظة، بحيث تكون على أهبة الاستعداد للتعامل الإيجابي والصحيح والدقيق والسريع كذلك مع الأحداث والمتغيرات المفاجئة، التي فرضها واقع جديد، تجددت فيه الوسائل وتطورت فيه الأساليب، الأمر الذي يحتم على الحركة أن تتجاوز الطرق الكلاسيكية البطيئة في إبداء الموقف وتحديد الخيار، وألا تبقى حبيسة الرؤى القديمة المبنية على التوجس الدائم واللا ثقة، فتبقي نفسها محصورة في زاوية الاضطرار في تعاملها ومواقفها وخياراتها، فيطغى لديها الاضطرار على الخيار، بل عليها أن تواكب الفرص التاريخية التي لا تتكرر كثيراً، فتجعل منها مناسبة لتثبيت صورتها الصحيحة والمشرفة والمطمئنة والشريكة، لدى كل الفئات، والتخلص عملياً من الصورة القاتمة والمخيفة وغير المطمئنة والإقصائية والمهيمنة، التي عملت الأنظمة القمعية خاصة على ترسيخها لدى الكثير من مكونات الرأي العام لسنوات عدّة.
وأثبتت الحركة الإسلامية التونسية ذلك، وأتصور أنها نجحت إلى حد الآن في هذا الامتحان أثناء الثورة وبعدها، على رغم غيابها عن المشهد التونسي السياسي وحتى الدعوي والاجتماعي لمدّة ليست بالقصيرة، كما أن الحركة الإسلامية المصرية ممثلة في الإخوان المسلمين كذلك كانت موفقة إلى حد كبير في تطبيقها العملي لفقه اللحظة الذي نتحدث عنه منذ بداية الثورة المصرية وأثنائها وبعد انتصارها، فكان لذلك الأثر الإيجابي لدى حتى الفئات التي كانت مناوئة للجماعة ايديولوجياً وفكرياً وسياسياً، فأصبحت تعبر صراحة عن إعجابها ورضاها واطمئنانها، وتعترف بأنها كانت ضحية حملات التشويه والتخويف والتشكيك التي كان يقوم بها النظام السابق، ليضمن بقاء الجدر والحواجز بين الإخوان وبين بقية مكونات المجتمع المصري السياسية والاجتماعية والثقافية وحتى الدينية، ولعل انكشاف تورط وزير الداخلية السابق في تفجير كنيسة القديسين ومحاولة توريطه واتهامه لعناصر ومنظمات إسلامية يوضح هذا الأسلوب الذي كان متبعاً، ليبقي الهواجس القبطية من كل ما هو إسلامي قائماً، الأمر الذي كذبته الثورة المصرية عملياً بحيث لمدة ثمانية عشر يوماً والأمن غائب تماماً ورفع الحراسة الأمنية عن الكنائس، لم تمس أية كنيسة ولم يسجل أي اعتداء مهما كان صغيراً على أيٍّ منها.
إن الأحداث المتسارعة التي عاشتها وتعيشها بعض الأقطار، وما انجر وينجر عنها من نتائج وآثار، تحتم على الحركة الإسلامية ــ كما قلنا ــ ألا تكون بعيدة عن مسرحها، ولا ينبغي أن تتعامل معها بمنطق (شاهد ما شافش حاجة)، ولا أن تصم آذانها عنها أو تضع رأسها في الرمال، وإنما لابد لها بحكم مسئوليتها الشرعية والوطنية أن تكون حاضرة ومتفاعلة معها ومبادرة كذلك باقتراح الحلول الناجعة، لتجنب الآثار السلبية والكارثية لمثل هكذا أحداث.
كما لا ينبغي لها أن تتخلى عن مسئولياتها في ذلك أو تتخلف عن القيام بدورها الإيجابي، تحت وقع منطق فوبيا الإسلاميين، أو التخويف من حكم لخوانجية على حد تعبير الرئيس التونسي الهارب، الذي تستعمله بعض الأنظمة، للحيلولة بينها وبين القيام بدورها المنوط بها، وخاصة في المحطات الحرجة والمنعرجات المفصلية الحاسمة.
هذا الدور والحضور ليس بالضرورة أن يكون عن طريق إثارة الشغب والهرج والمرج والحرق والتدمير كما يريد البعض، فالحركة الإسلامية وأبناؤها هم من أحرص الناس والفئات على أوطانهم واستقرارها وأمنها وتنميتها وازدهارها وتفويت الفرصة على أعدائها والمتربصين بها، وفي الوقت نفسه هم من أحرص الناس على حريتها وسيادتها واستقلالها وتخليصها من الظلم والقمع والاستبداد والتضييق والتوريث والجملوكية.
فدور الحركة الإسلامية لا ينبغي أن يركب الموجة فقط، ويستثمر في الأحداث ويقطف ثمرتها، فهذه انتهازية نبرأ بالحركة الإسلامية أن تفعلها، وإنما يبدأ من قبل، وذلك بقوة اقتراحها وواقعية مبادراتها ومساعيها وحلولها، ومشاركتها الفاعلة وتضحياتها وتحركها الإيجابي وتحملها للغرم، لتحقيق تطلعات الشعوب، للحيلولة دون وقوع الكارثة ــ لا قدّر الله.
لتكون بذلك أهلاً وجديرة ومن حقها المشاركة في الغنم العام وجني نصيبها من النتائج الإيجابية للواقع الجديد، هذا الغنم والنصيب نقصد به قانونية تواجدها وحرية عملها ورفع الغبن والظلم والتشريد والسجن والملاحقة عن أبنائها، وفرض نفسها شريكاً مهماً في ساحة العمل والحراك الوطني، ولا نقصد به غنماً ونصيباً مادياً وجزءاً من الكعكة كما يقال.
لأن تخلف الحركة الإسلامية عن فقه اللحظة، سيؤخر مسيرتها أعواماً وسيضرب صدقيتها في الصميم لدى الرأي العام، وسيكون حتماً وبالاً عليها وعلى مشروعها، وسيستنزف ذلك الكثير من جهودها وأوقاتها في حملات تبرير هذا التخلف والتباطؤ، عوض أن تصرف كل ذلك في استثمار الواقع الجديد ومشاركتها في تشكّله وتوجيهه نحو الأصلح والأفضل، برأس مرفوع ونفس مطمئنة، لأنها كانت شريكاً في صناعته، بعد أن فقهت بحق لحظتها ولحظته ولم تتأخر عن الحدث أو تتثاقل في التعامل معه أو تتلكأ في التفاعل معه بإيجابية.
فالمطلوب من الحركة الإسلامية إما أن تصنع الحدث وإما أن تشارك في صناعته وإما أن تتعامل معه بذكاء وعمق ودقة وحكمة، وتسعى جاهدة لصرف وجهته وتحويل تياره لصالح الأوطان والأمة والشعوب، وهذا طبعاً لا يتم بشكل صحيح إذا لم تستطع أن تفقه اللحظة، وبقيت تحشر نفسها في زاوية ضيقة لا تخرج خياراتها إلا تحت ضغط إحدى مخافتين، إما مخافة أن تتورط بمفردها في مواجهة غير مأمونة العواقب عليها وعلى الأوطان والشعوب، وهي مخافة مشروعة لا شك، فتعطي بذلك الفرصة لخصومها وأعدائها، وخاصة الأنظمة القمعية المستبدة القائمة أساساً على فزاعة الإسلاميين، وتقدم نفسها للغرب تحديداً أنها هي جدار الصد الأول والحارس الأمين ضد إمكانية سيطرة الإسلاميين على السلطة في المنطقة ما يهدد المصالح الغربية، وظلت الكثير من هذه الأنظمة تقتات من هذه الفزاعة أو قل من هذه الكذبة الكبيرة، وتضمن استمرارها بل وخلودها من خلالها، فيطرحون أمام الغرب ثلاثة خيارات لا رابع لها، إمّا أن يبقوا هم في السلطة للأبد وإمّا سيطرة الإسلاميين وإمّا الفوضى، فكسبوا بذلك سكوت الدول الغربية عن انتهاكاتهم الكارثية لحقوق الإنسان وقمعهم للحريات والاستمرار الأبدي لقوانين الطوارئ، وارتكابهم لجرائم يشيب لهولها الولدان في حق شعوبهم، يسكتون عن أفعالهم المشينة هذه كلها ماداموا ــ في تصورهم أو كما أقنعتهم هذه الأنظمة ــ يحولون دون هيمنة البعبع الإسلامي الذي سيطيح بمصالحهم في المنطقة، كما ثبت بالدليل العملي أن النظامين التونسي والمصري كانا يفعلانه لآخر لحظة، ولحق بهما نظام العقيد بالسيناريو نفسه تقريباً.
وإمّا مخافة التخلف والتأخر والتثاقل والتلكؤ عن حركية الشعوب تحت حجة عدم ضمان النتائج أو الخشية من دفع الضريبة مضاعفة، من دون تحقيق الأهداف المرجوة، فتكون أكبر الخاسرين، فيأتي فقه اللحظة ــ الذي نتحدث عنه ــ وذلك بحسن قراءتها للحدث وتفصيلاته ودوافعه ومكوناته، وكذا حسن التفاعل والتعامل والتكيف معه بشكل سريع وآنٍ ولحظي، فتكون نتيجته خير وتمكين وتطور ونجاح وضمان وجود واحترام وتقدير وتوسيع دوائر القبول للحركة الإسلامية ومشروعها وكوادرها وأبنائها، وفرض نفسها شريكاً مسئولاً لا يستطيع أيٌّ كان إقصاءه أو تهميشه أو استبعاده
إقرأ أيضا لـ "جمال زواري أحمد"العدد 3206 - الجمعة 17 يونيو 2011م الموافق 15 رجب 1432هـ