قيل في الظُّلْم إنه: وَضْع الشيء في غير موضِعه، فمن اسْترْعَى الذِّئبَ فقد ظلم مثلما جاء في المثل. لكن أصل اللفظ وما يعنيه هو الجَوْر ومُجاوَزَة الحدِّ كما جاء في لسان العرب. وحين يُقال تظَلَّم منه أي شَكا مِنْ ظُلْمِه، وتَظَلَّم الرجلُ أي أحالَ الظُّلْمَ على نَفْسِه. والظَّلَمة هم المانِعونَ أهْلَ الحُقوقِ حُقُوقَهم. وأيَّاً تكن تعريفات الظلم فإن وجوهه كلها قبيحة مذمومة، سواء إن ظلم الإنسان نفسه، أو ظلم الإنسان إنساناً آخر مثله عندما تستعر المشاعر الجاهلية وينتصر الجنون على العقل، أو عندما يظلم الحاكم رعيّته فكلهم في السُّوء سواء.
في أحوالنا الاجتماعية وأزماتنا الشعواء نرى أن عديداً من الناس يقع عليهم ظلم كبير. كلّ من قال في أخيه في الدِّين قولاً كاذباً فهو ظالِم. وكلّ من أشاح بوجهه عن أخيه في الوطن فهو ظالِم. وكلّ من وَشَى بأخيه في الإنسانية بغير حق فهو ظالِم، وكلّ مَنْ شَهِدَ على أخيه زوراً وبهتاناً فهو ظالِم، فليس الظُّلم أن تأخذ حقاً أو تمنعه فتؤذي صاحبه باللمس فقط، وإنما صناعة الظلم متعددة ومتلونة، ولا تخضع لشكل واحد. فهي تبدأ بإيماءة الوجه وتمرّ باللسان ولا تنتهي إلى قسوة الجسد وصنيعه.
هنا ليست المشكلة في أن يقع ظلمٌ على أحدٍ من أحد لينتهي الحدث، وإنما المشكلة في مستقبل ذلك الظُّلم وإلى أين يأخذ صاحبه. فعندما يقع ما قاله ثيوقيديدس في القرن الخامس قبل الميلاد بأن «القوي فَعَلَ ما بوسعه، والضعيف قاسى ما يجب عليه أن يُقاسي» تصبح المشكلة الاجتماعية أن الناس قد انقسموا إلى أعداء بأقصى ما تنتجه العداوة من بغضاء وحب في الانتقام يُفرِّقهما سِماطان، ويُمايزهما أن هذا قوي وذاك ضعيف، ثم تتبدَّل الكَرَّة مرة أخرى ليصبح القوي السابق ضعيفاً والضعيف السابق قوياً وهكذا دواليك. حينها تتحقق مقولة الألماني فريدريش شيلر بأن «العدو الذي يقع يُمكنه أن يُعاود الوقوف» ليستمر ظلم البشر لبعضهم دون توقف بسبب شهوة غضبية عمياء لا تبقِي ولا تذر. لقد كان ابن قيّم الجوزيّة يقول «أوثق غضبك بسلسلة الحلم؛ فإنه كلبٌ إن أفلَتَ أتلَف».
كلّ تجارب التاريخ أثبتت أن الظُّلم الاجتماعي بين البشر لم يجلب للأقوياء إلاّ مثلما ذاق الضعفاء، سواء في حدِّه الأدني أو الأعلى. فقد قسا المجتمع الروماني على القرطاجيين إلى حدّ التدمير ثم جاءتهم ذات القسوة من حيث لا يحتسبون. وظَلَم الرومان الوثنيون المسيحيين بتحريض من نيرون بعد الحريق الكبير لكن سنيناً أربع فقط كانت كافية لأن يتجرَّعوا من ذات الكأس. تكرّرت هذه المشاهد في آسيا وفي أوربا الأنوار وفي أميركا اللاتينية وبالتحديد في المكسيك قبل العام 1821م. هذا ديدن التاريخ المُعاد ولا شيء غيره.
في جانب آخر من المشهد فإن علاقة الحاكم بالمحكوم هي الأخرى تبتَلى عادة بداء الظُّلم، وما أعظمه من ظلم إن وقع. هنا أتذكر ما قاله قاضي القضاء لأحد الملوك عندما سأله الأخير: ما شيء واحد يعزّ به السلطان؟ قال: الطاعة. قال: فما ملاك الطاعة؟ قال: التودّد للخاصّة والعدل على العامَّة. وهو نصحٌ حصيف ما بعده نصح. فمن يتسيَّد على العباد فإن آلته الحقيقة والأمضى هي سِعة الصَّدر كما جاء في الأثر. وقد أخرج ابن عبد ربّه في العقد الفريد أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز قال لأبيه: يا أبتِ، ما لكَ لا تحسم في الأمور، فوالله لا أبالي في الحق لو غَلَتْ بِيَ وبك القدور. فقال له عمر: لا تعجل با بني، فإن الله تعالَى ذَمَّ الخمرَ في القرآن مرتين وحرَّمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جُملة فيدفعوه وتكون فتنة.
عندما أقرأ التاريخ الأوروبي وما آلت إليه الدول الأوروبية من حال جَبَّ ما كانت فيه من تذابح وقتال، أتساءل: كيف يُمكن لهذا التاريخ الأسوَد أن يُنتج دولاً بهذا التطور والاستقرار؟ ثم كيف ضبطوا حكمهم وهم بهذا التشظي والافتراق، سواء في داخل الدين المسيحي الواسع أو في القوميات والإثنيات التي لا تنتهي بانتهاء الأرض الأوربية؟. تبيّن لي شيء واحد، وهو أن الأوربيين اعتمدوا على ما قاله وليام شكسبير من الشَّفقة جوهر القانون، ولا يَستخدِم القانون بقسوة إلاَّ الطغاة. لقد قيل هذا الحدّ من الكَلِم عندما كانت أوربا بكاملها تراهق للدخول في التغيير نحو الديمقراطية والتمثيل النيابي الصحيح، وهي عملية انتقال شاقة جداً، وقد مضَى الأوربيون على ذات الدَّيدَن إلى هذا اليوم ليس آخرها تعاملهم في آيرلندا.
أختم مقالي بما ذَكَرَه ابن جرير الطبري من أن الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز عندما كان والياً على المدينة ضرب خُبَيْب بن عبدالله بن الزبير بن العوَّام بأمر من الخليفة الوليد بن عبدالملك خمسين سوطاً، وصَبَّ على رأسه قربة ماء في يوم بارد، وأوقفه على باب المسجد يوماً فمات. فنَدَمَ عمرٌ على ما فَعَلَ بِخُبَيْب ندماً شديداً واستعفى من المدينة رغم أنه أعطى أهل الزبير ديته وقسَّمها فيهم. وعندما أصبح خليفة للمسلمين كان يُقال له: أَبْشِرْ فَقَد صَنَعتَ خيرًا، فيقول: فَكَيْفَ بِخُبَيْب؟
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3204 - الأربعاء 15 يونيو 2011م الموافق 13 رجب 1432هـ
احسنت
كلام راقي اخي وعين عين العقل ..شكرا لك من اقصى الضمير ووسط العقل
هكذا وإلا فلا
لم تخلوا مقالاتك من ضرب الأمثلة يوما ،أحيانا لمفكرين وأحيانا قصص من التراث وأحيانا أخرى من الأدب المتنوع ، هكذا المقالات وإلا فلا ، يخيل لك وأنت تقرأ العمود كأنك تفتح نافذة على الزمن من حيث الفكر والدين والأدب ، وكله كوم والخلق الرفيع في الطرح كوم آخر ،
منتهى الذوق يأ أساذ محمد
شكراً ضربت على الوتر الحساس
مشكوووووووووور من أعماق قلبي. أجل نحن محاطين بالفتن واللؤم والكراهية ........ ......
فبقلبه
شكرا للكاتب المقتدر محمد، أنت مثقف؛ والثقافة تتيح للقلم مجالا أوسع للحركة في المعنى، ولقد أمرت بالمعروف بقلبك، ولعله اليوم الأنجح في بلوغ القلوب، فلو خبطت بالقلم سيفا؛ لأجرى كراهية، وأوصد حبا؛ الناس أحوج لتداركهما، ولكنك أومأت وأشرت، وخاطبت من تفهم الجارة أنها به المعنية، وهذه حكمة القلم، زادك الله رشدا.
مقال أي مقال يقال له ؟؟!!
نتمى المواصلة على هذا الخط
مقال جميل
تسلم على هذا المقال، ........
حلو المذاق في الزمن المّر
مقال قل نظيره ، حلو على اللسان ، بارد على القلب ، ترتشفه رشفة رشفة وتتمنى أن لا ينتهي ، ما أعذبه في الزمن المّر .
بارك الله لك قلمك وصحت أناملك .
بو جاسم
ماذا عساني اقول لك، طبيب مداوي أنت أم ماذا؟
لا علي من كل ذلك، فكل ما يصدع به قلمك، فكرك، عقلك يقول لي حينما أقرأ عمودك انك أنسان ومواطن من الدرجة الأولى.
حفظك المولى من كل شر وأبقاك رمزاَ ولساناً لكل مواطن شريف.
أخوك أبو محمد البحراني