العدد 3204 - الأربعاء 15 يونيو 2011م الموافق 13 رجب 1432هـ

«إسرائيل» ترقص والعالم يرقص لها ومعها

مريد البرغوثي comments [at] alwasatnews.com

.

نحن ضحايا هذا الرقص

تقف على سور عكا، فتقف أمامك على الفور وفي صَفٍّ واحد علامات الاستفهام متجهة اتجاهاً واحداً: كيف ضاع بلد كهذا؟

سور غامق المكانة، أسود إلا قليلاً. يميل مع الشاطئ، يستقيم معه ويميل ثانية فتظنه اختفى لكنه يعود للظهور في انحناءة هَوْلٍ يجعل الصوان يتمنى القدرة على أن يرتجف. يلف الدنيا وهو يحيط بمدينة واحدة. شاهق. إذا وقفتْ تحته بارجة رأتها عين الواقف فوقه مركب صيد قليل الحظ. عريض. إذا لعبت عليه كرة القدم توهمت أن الكرة لن تسقط في البحر ولا في المدينة وأنها ستظل عليه. ما الذي أتي بسيرة اللعب هنا، في هذا المقام الوقور؟ من لعب بمن؟ من خسر؟ من ربح؟ وهل هي لعبة؟ أم أنها الحرب التي خسرتها أمة بأكملها؟ هنا، تضع إصبعك على الفكرة التي تضرب جسمك كله كموجة: فلسطين لم تسقط في حرب ذات بداية ونهاية.

@@@

فلسطين ضاعت نُعاساً

الحروب الكبيرة، والحروب الصغيرة، تبدأ وتنتهي في تاريخ محدد. من حرب طروادة إلى حرب البسوس إلى فيتنام إلى الحرب العالمية الأولى والثانية الخ. وبوضوح يليق بالعقل البشري تعرف أنك خسرت، أو تعرف انك انتصرت، ثم تفكر في الخطوة التالية.

لم تأت بوارج الجيوش اليهودية وتدكّ هذا السور وتقتحمه على أهل البلد. لم تقم قوة بمحاصرة أهل فلسطين عسكرياً ليرفعوا لها الرايات البيض وينتهي الأمر. لم تبدأ القصة بجيش للعدو يقابله جيش فلسطيني.

فلسطين ضاعت نُعاساً. وغفلة واحتيالاً.

ضاعت ببطء لا بداية له. بطء مريب.

وطن تعرض للنشل كما تعرفه الأوتوبيسات أو الموالد. بخفة. بدهاء. وبتواطؤ الناظرين إلى أصابع اللص إيثاراً لسلامتهم الغالية. أصابع اللص ظلت في جيوبنا عشرات السنين. هو يكوّم المكاسب ونحن نكوّم النعاس.

وفي كل يقظة حاولناها، وجدنا موتنا ورحيلنا الموحش إلى المنافي والمنابذ والأخطاء.

كل هذا تم ببطء يبعث على الرهبة. بطء يجعل الصوّان يتمنى القدرة على أن يرتجف.

كيف تنعس أمة بأكملها؟ كيف غفلنا إلى ذلك الحدّ؟ إلى هذا الحدّ بحيث أصبح وطننا وطنهم؟ وكيف تسابق للاعتراف به الصديق والعدو، الشرق والغرب، وأخيراً الفلسطينيون والعرب أنفسهم - رسميّاً على الأقل؟

لقد ضبطنا العدو في لحظة تخلف فكري تاريخي اجتماعي اقتصادي ثقافي سياسي وعسكري وذاتي وإقليمي. لم نع ما حدث قبل حدوثه ولا لحظة حدوثه وربما لا نعيه الآن بعد حدوثه بنصف قرن! أم أننا وعينا ونعي لكننا أضعف من أن نعدل الميزان الذي مال؟ وهل سيظل مائلاً إلى الأبد؟ إلى بعض الأبد؟ إلى متى بالضبط؟

حتى الدمع يبدو غامضاً

لا أومن بحكم الأجيال على الأجيال، فاللاحق كالسابق، يشترك معه في لحظة ما في الصفات ذاتها، قبل أن يقع التطور الأكيد إلى الأمام كما تقضي سنة الكون. الاحتلال العثماني لخمسة قرون، يليه البريطاني، منعا ظهور دولة فلسطينية مستقلة. ثم جاء المستوطنون اليهود الأوائل ليأخذوا وطناً لم يتبلور له كيان سياسي من قبل. (هل كان ممكناً أن تقام «إسرائيل» على أرض دولة مستقلة ولها كيان معترف به دولياً؟)

وماتزال اللحظة على حالها! إننا لا نحاول استعادة استقلال فقدناه في معركة بل نحاول أن نستقل غداً.

تاريخ يتعطل خمسمئة عام. كنا فيها جزءاً من أمة «موحدة» تحت راية بني عثمان ومازلنا بعدها جزءاً من أمة «ممزقة» تحت عشرين راية مستقلة.

إنه الغموض. إنه غموض موجع كعضة الذئب. أن تخسر أرضاً في معركة عسكرية، تتقاتل فيها مع جسم العدو الواضح لأيام أو شهور، هذا ليس غامضاً؛ بل واضح ويحدث في هذه الدنيا. أما أن تخسر بلداً كاملاً في معركة غامضة لا يعرف أحد ساعة بدايتها ولا ساعة نهايتها - هي ماتزال مفتوحة - فهذا هو ما يجعل الشرف والعار والنصر والهزيمة والدمع، حتى الدمع، غامضاً.

قالوا خيانة الأنظمة:

لكنها وحدها لا تفسر كل شيء. فكم تبدلت أنظمة العرب في قرن من الزمان!

قالوا باعوا أرضهم:

ولكن لم يحدث أن باع أصحاب وطن وطنهم ولم يحدث أن اشترى غزاة وطناً بالنقود. الكذبة ليست حقيرة فقط؛ بل هي ذريعة لتبرير عجز من أطلقوها.

قالوا مؤامرة الدول الكبرى:

ولماذا تمرّ المؤامرة بنجاح؟ أين كنا جميعاً وهي تنفّذ؟ من منعنا من الأفعال والترتيبات الصحيحة؟ وكيف عجزنا عن مواجهتها؟

قالوا الأسلحة الفاسدة:

وهل كانت العقول والنوايا التي أرسلتها صالحة؟ وبماذا نفسر حجم خسارتنا قبل وصول تلك الأسلحة أصلاً ولسنوات طويلة سبقتها؟

قالوا أرض بلا شعب:

فهل ولد الفلسطينيون من مَجازٍ أو من غيمة؟ ألم يكن جدّي وجدّك وجدود آبائنا وأمهاتنا هناك؟ من عمّر تلك القرى والمدن والموانئ لآلاف السنين؟ من أذّن في مساجدها وقرع نواقيس كنائسها طوال قرون؟ من عصر الزيتون وملأ الجرار بالزيت وقطف التين واللوز وحرث وأطعم وأسقى؟ وهؤلاء اللاجئون في مخيمات الصفيح والزنك هل أقاموا فيها من باب ممارسة الهوايات؟ هل كانوا فرق كشافة يعشقون الخيام ويزهدون في حدائق حيفا ويافا؟ هل جاءوا إلى مخيم الأمعري والجلزون واليرموك وصبرا وشاتيلا وعين الحلوة والبقعة والوحدات وقلندية وعقبة جبر ليلعبوا الغولف أوالتزلج على الجليد؟

قالوا اليهود ضحية المحرقة النازية:

ونحن، الفلسطينيين والعرب، ندين المحرقة كجريمة لا يمكن نسيانها أو غفرانها قامت بها النازية (وليس نحن) لكن المستوطنة اليهودية الأولى في فلسطين أقيمت في أواسط القرن التاسع عشر، والمؤتمر الصهيوني الأول عقد في آخر القرن التاسع عشر ووعد بلفور بإنشاء دولة لليهود في فلسطين صدر قبل المحرقة النازية بربع قرن!

ومتى بدأت معركتهم على وجه التحديد؟ متى انتهت؟ وهل انتهت؟ هل يجيبنا أحد؟ كيف قاومنا بحيث يكون تتويج مقاومتنا هو هذا الغموض الراهن الرهيب؟

كيف نظمنا أطول إضراب في التاريخ دام ستة أشهر كاملة، وقمنا بثورة1936 - 1939 وأنشأنا كل أنواع المنظمات والفصائل، الجهاد المقدس والهيئة العربية العليا والمجلس الإسلامي الأعلى ومنظمة التحرير الفلسطينية والعاصفة وشباب الثأر وفتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وجبهة التحرير وجبهة التحرير العربية والصاعقة والهيئة العاملة والتحقنا بحزب البعث والحزب الشيوعي وحركة القوميين العرب والفصائل التي نسيتها الذاكرة

إقرأ أيضا لـ "مريد البرغوثي"

العدد 3204 - الأربعاء 15 يونيو 2011م الموافق 13 رجب 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً