إن مناقشة مسألة التعديلات الدستورية، لاينبغي النظر إليها منهجياً ورؤيوياً بمعزل عن سياقاتها العامة، وأيضاً بما يطرحه الدستور من قضايا حيوية واستراتيجية، وفي الوقت نفسه لا تكمن قيمة أي دستور في ذاته، وإنما في الوظائف التي يمكن أن يؤديها على مستوى الدولة والمجتمع، ومختلف الانتظامات المجتمعية والسياسية والاقتصادية والفكرية؛ ما يضمن إخضاع العلاقات الفردية والجماعية للقانون والشراكة على مستوى تدبير الشئون العامة وإحقاق الحقوق، وفق تعاقدات واضحة وشفافة، في إطار نظام ديمقراطي وحي، علماً بأن وظائف الدساتير تتباين بحسب مقتضيات الأنظمة والمجتمعات، وثوابتها وثقافاتها الحضارية والتاريخية، من دون أن يتناقض ذلك كلياً مع القواسم الإنسانية المشتركة، من ديمقراطية وحرية التعبير، والحقوق الشاملة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للأفراد والجماعات؛ ما قد يضفي عليها شكلاً من أشكال الأنسنة، والتي من دونها لا يمكن لأي مشروع دستوري أو سياسي أن يتقمص طابعاً حضارياً وجوهرياً، من خلال ذلك ينبغي طرح مسألة تعديل الدستور المغربي في ضوء رؤية شمولية ذات أساسين:
أولاً: ضرورة استحضار واستثارة المرتكزات والبنيات الحيوية لترسيخ وتقوية وتجديد الدولة في إطار محيطها العام أي المجتمع، وما يمكن أن ينشأ عنها من العلائق؛ أي أن تكون الدولة جزءاً من المجتمع ومعبرة عن هويته وطموحاته، وأيضاً المجتمع ضامناً لشرعية الدولة واستمراريتها من خلال التعاقدات الشعبية، وهذا لا يمكن أن يتأتى دون الأخذ بالاعتبار المستويات الآتية:
أ- مرجعية الأمن الوطني والقومي: وهي غير قابلة للتجزيئ أو المقايضات السياسية، أو منظورات أنصاف الحلول.
ب- المرجعية التاريخية وديناميتها: إذ ظلت العديد من المطالب الاستراتيجية، وعلى رأسها، تعديل الدستور مطلباً موضوعاً على طاولة الأجندة السياسية منذ أزيد من قرن، وعرف مخاضات تاريخية بدءاً من العام 1908 وصولاً إلى توقيع مذكرة أو وثيقة المطالبة بالاستقلال التي تؤكد مبدأ الديمقراطية، إلى غاية 1992و1996، مروراً بالكثير من التفاصيل والصراعات والمطالب والتضحيات التي كانت تتغيا جعل مكونات الهوية السياسية والتاريخية والحضارية لا تتناقض كلياً مع متطلبات التغيرات والتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي يعرفها الحاضر؛ ما يعني أنه لا يمكن تدبير الشئون الراهنة والمستقبلية بالآليات والوسائل الدستورية والإدارية والثقافية نفسها، وأيضاً العقليات التي تكلست مع مرور الزمن.
ج- المرجعية الديمقراطية والشعبية:ومن خلالها يمكن أن تنبثق المؤسسات مستمدة شرعيتها من المجتمع بكل تعبيراته، دون الإخلال بتوازناته ودينامياته، مثلما أنه ينبغي أن تخضع كل الإدارات والواجهات القضائية والخدماتية والمهنية والإدارية والاجتماعية، لسلطة القانون، وفوق ذلك سلطة الدستور الذي يستمد شرعيته من الشعب، في ضوء تحديد الصلاحيات، وقرن المسئولية بالمراقبة.
ثانيا: إن الدستور يجسد إرادة كل مكونات الشعب وفئاته وأي بناء استراتيجي لا يمكن اختزاله في مطلب أحادي؛ ما يحوله إلى مطالب» اجتماعية أو نقابية» ضيقة، أكثر منه هندسة عامة لبناء دولة المجتمع، وبالتالي وفق هذا المنظورسيأخذ الدستور أبعاداً «طائفية» مسكوتاً عنها، كل فئة فيه لاتفكر إلا في ما تعتبره ملكاً وحقوقاً خاصة، كانت ثقافية أو سياسية أو اقتصادية، وهنا يبقى أن نتساءل: أين هو دور المجتمع العميق المغيب والذي لا يجد من يمثله، والحال أن الدستور المأمول هو الذي ينبغي أن يكون المعبر عن إرادة الأمة بهويتها التاريخية والحضارية والثقافية المتنوعة والخصبة، والتي لم تخول لأي كان أن يتحدث باسمها وخصوصاً الذين يضفون على مطالبهم وخطاباتهم طابعاً من القدسية المجاوزة للزمن والتاريخ، بصرف النظر عن انتماءاتهم وعقائدهم السياسية،يسارية أو يمينية أو إسلامية أو ليبرالية «حداثية» أو تقليدية، ذلك أن هذه الأنماط من التفكير والذهنيات النفسية والثقافية توجد في كل الثيارات الايديولوجية والمؤسسات الرسمية، في حال كمون وفعل.
لذلك فإن مطلب تعديل الدستور، أو إعادة النظر في بنوده جزئياً، ولكن ليس شكلياً، لا يندرج فقط ضمن تداعيات المزاج الراهن، وإلا ستكون، وفق هذا المنطق، أيضاً صلاحياته ظرفية، بل هو مشروع ظل مؤجلاً لما يربو عن قرن من الزمن، بما يفيد أن أي تحول دستوري ينبغي أن يمس في العمق بناء الدولة المأمولة، بما يتلاءم ويتجاوب مع شروط التنزيل منذ مطلع القرن السابق إلى يومنا هذا؛ ما يمكن أن يعطي دلالات تاريخية لعملية التحول وإعادة الإصلاح والبناء. ولن يتم ذلك إلا حين يكون الدستور المعدل دستورا للمستقبل؛ أي غير مرهون بالأمزجة الظرفية
وتأسيسا عليه، فإن عملية التحول هذه مطلوب منها، بالأساس، إعادة توزيع السلط وتقاسمها، من منظور تشاركي، من خلال آليات قانونية وسياسية مؤهلة لهذا المأمول التاريخي، وبالطبع من شأن ذلك، أن يحدد مضمون الدولة الجديد ووظائفها الحديثة، في علاقتها بالمجتمع المؤسسة على التعاقد المتبادل، ولا يمكن أن تكتسي هذه العملية عمقاً استراتيجياً، إلا إذا مست في ما يشبه الرجة النفسية الهادئة، النسق السياسي المغربي برمته وطبيعته التقليدية أفقياً وعمودياً، وأيضاً المجتمع بكل فئاته وشرائحه، فإشكال تحديث المجتمع ودمقرطته في علاقته بالدولة الحديثة بمؤسسات حديثة ، لا يمكن أن يتم، في ظل بنيات اجتماعية ومؤسسات تتنازعها السلط و»الشرعيات»، وأيضاً إشكالية تفعيل النصوص الدستورية، التي غالباً ما تبقى شكلية، فما أكثر القضايا المدسترة ومع ذلك لا تجد طريقها إلى التطبيق؛ أي تغدو مجرد هيكل لتسويغ الثوابت، وعلى رأسها اللغة الرسمية للبلاد( اللغة العربية).
وعليه، ليس من السهل عبور هذه المرحلة الانتقالية، في ظل المناهضين لعملية التحول الصعبة والذين يوجدون في مفاصل الدولة والأحزاب والنقابات، والجمعيات المدنية والذين يلتقون موضوعياً، حتى إن كانوا ينادون بالتغيير وكل الشعارات البراقة، مثلما يلتقي أيضاً رواد التحول وتنهيض الدولة والمجتمع والذين يوجدون أيضاً في كل الفضاءات السياسية والثقافية والمجتمعية، وأيضاً داخل الدولة، وإن كانت مراتب المسؤوليات تختلف، في خنق عملية التحول، أو توسيع مسالك التنفس عندها، حتى تخرج إلى الوجود سليمة وآمنة، عبر استلهام رأس المال الرمزي المشترك للمغاربة حضارياً وتاريخياً ولغوياً، المتعدد والمتنوع، الذي لا ينظر إلى الأشياء والمعطيات برؤية مثالية وميتافيزيقية، كمن يتحدث عن لغة خالصة، أو إثنية عذراء، أو تاريخ متوهم، أو إيديولوجية مقدسة دينية أو عقائدية سياسية، كانت يسارية أو يمينية أو إسلامية مطلقة تقتات من انثربولوجية المعتقدات الثقافية والذهنية التي تكرس بنية التقديس ونفي الآخر. فالمغرب فضاء لانصهار اللغات والثقافات والحضارات والأجناس والقبائل، وقبل ذلك الديانات.
هكذا يبدو أن النقاش بشأن الدستور كثيراً ما «انصب حول مطالب» جزئية، وفي جميع الأحوال لا يمكن للدستور أن يكون صدى لفئة مجتمعية واحدة، أو حزب واحد، أو جمعية واحدة، أو ائتلاف معين، أو كتلة ما، صغرت تمثيليتهم أو كبرت، مادام أن المجتمعات تشتمل على مصالح متضاربة ونزعات فكرية وثقافية عديدة، وبالتالي لا يمكن فهم الاجتماع الإنساني إلا في إطار علائقه الجوهرية المتنوعة، والمجتمع الحي هو الذي يتيح لهذه الكلية بكل تعبيراتها النمو بشكل طبيعي، دون أن يكون ذلك عاملاً من عوامل التفكك والتفسخ والتحلل اللاإرادي للدولة والمجتمع على حد سواء.
أسلوب الحكم
من الواضح، إذن أن أهم بند يطرح نقاشات ومقاربات ،هو ما يتعلق بأسلوب الحكم وجوهر الملكية، وصلاحيات الملك، وهكذا تراوحت المداولات بين آراء مختلفة وزوايا قانونية وسياسية وأيديولوجية، متباينة أحياناً ومتماثلة في أحايين أخرى، وسط الطبقة السياسية والنقابية والجمعوية وبعض فئات الشعب، وليس كل الشعب، الذي أغلب فئاته وطبقاته غائبة ومغيبة، فأغلب الرسائل والرموز تمر بين مختلف الفاعلين في الحقول الإعلامية والسياسية والجمعوية والثقافية، وكأنهم وحدهم المعنيون بالتعديلات الدستورية، تحدد مصائرهم ومواقعهم، حتى وإن تقمصوا «صوت» الشعب، الذي لم ينتخب أحداً كي يكون مندوباً عنه، مادام الشعب هو مصدر السلطة عبر آلية الانتخاب في النظام الديمقراطي، وفق قواعد «اللعبة» المعروفة، ويبدو أن هذه الأصوات، في الجوهر، تخاطب بعضها البعض متدافعة أو متآلفة، وكل منها يقدم نفسه ناطقاً باسم الشعب أو لسانه، أو ولياً عنه، أو مفوضاً «إلهياً»، وفي اعتقادنا أن مثل هذه الخطابات والممارسات من ضمن أكثر العوائق الفعلية بالنسبة إلى إنجاز مشروع التغيير ،الذي كان يتطلب حواراً عميقاً وجوهرياً يترفع عن «الأنانيات» والانتماءات الضيقة التي لن تخدم عملية التحول السياسي والاجتماعي. إن تبني «الملكية الديمقراطية» أو «الملكية البرلمانية» دستورياً، أو غيرها من صيغ الحكم ونظمه، لا يمكن أن يكتمل إلا بوضع الآليات والمؤسسات لتطبيق الدستور وجعله أمراً ملموساً، وأيضاً ربطه بشروط تحقيق قيم المواطنة والكرامة الاجتماعية والحرية، وقيم تكافؤ الفرص، والحقوق والواجبات، ومحاربة كل أشكال الريع السياسي والاقتصادي والاستئثار بالثروات المادية والرمزية، فما أحوجنا إلى دولة القيم، ومجتمع القيم، ليس بمعناها الأخلاقي الضيق، وإنما الأوسع والأشمل التي تجعل المواطن يحس بمواطنته دون الحاجة إلى مال أو جاه أو سلطة أو وسيط. وهي القيم التي لا يمكن تحقيقها في مجتمع يعاني من إعاقات واعتلالات بنيوية في المجالات الاجتماعية، وأساسا الشغل، والتعليم والصحة والقضاء والفلاحة، فالدستور في آخر المطاف، ليس حلاً سحرياً لكل آفاتنا وأزماتنا، وإن كان عنصراً رئيساً في هندسة أساسات الدولة في علاقاتها بالمجتمع والتي ستكون بدون شك، على غرار المبدأ المؤسس للحكم ونظمه الخاضع لأنواع الحكم المختلطة Des gouvernements mixtes، بحسب التصور الذي صاغه جان حاك روسو، أو سيؤول عملياً - إن لم يكن نظرياً أيضاً - إلى هذا النمط، تحت إرغامات الكثير من التناقضات التي تخترق أعصاب وشرايين الدولة والمجتمع بكل بنياته الاجتماعية والسياسية، وجاذبية الوضعية الراهنة، وتجاذباتها،التي تتطلب تثويراً عميقاً في ما هو سائد من بنيات تقليدية تعبر عنها فئات وشرائح اجتماعية معينة عاجزة عن مواكبة التحولات، ولا ترى مصلحتها في التغيير، أو تدرك بحسها أو بوعيها أنه لن يتوافق مع إراداتها، لأن أي تغيير أو إصلاح عميق لابد أن ينجم عنه إعادة ترتيب الأوراق والمواقع والمسئوليات الرمزية والسياسية والمالية، أو بنيات «عصرية» تمثلها طبقات أخرى معزولة ومفصولة عن واقعها تعيش حالات اغتراب سياسي ولغوي واجتماعي واقتصادي، لا يربطها بالمجال الجغرافي إلا الوجود الفيزيقي، أو بنيات اجتماعية مركبة ومختلطة تتبنى العصرنة والحداثة وتمارس ضدها، أو ترفضها نظرياً لكنها مستلبة بها عملياً أو تجمع بين كل الأيقونات والكليشيهات الاجتماعية؛ ما قد يشكل مرحلة انتقالية لتأسيس سياق سياسي واجتماعي مغاير في أفق ضبط شكل نظام الحكم البرلماني والديمقراطي الذي يستمد شرعيته من الشعب
إقرأ أيضا لـ "عبدالرحمن غانمي"العدد 3203 - الثلثاء 14 يونيو 2011م الموافق 12 رجب 1432هـ